الفيلسوف «جاك دريدا» وتفكيك مركزية اللوغوس

على الرغم من الانتشار الواسع الذي لقيه مصطلح التفكيك والتفكيكية منذ منتصف ستينيات القرن الماضي؛ فإنه بقي صعب التعريف؛ وذلك لأن رائده المؤسس، جاك دريدا، يرفض كل أنواع الرسم والتحديد النهائي للمفاهيم؛ فكل المفاهيم عنده قابلة للمساءلة والتفكيك، بما في ذلك مفهوم التفكيك نفسه ومفهوم التفلسف.

التفكيكية ومحاولة التعريف

استجابة للانتقادات وسوء الاستخدام، وجد دريدا نفسه في ثمانينيات القرن العشرين مضطرًا إلى مناقشة مفهوم التفكيك مع الالتزام ببعض الاحتياطات في ذلك، فوصف التفكيك بأنه "أكثر من لغة"؛لأنه يسمح لأنماط تفسيرية متعددة ولا نهائية بأن تعبر عن نفسها دون الخضوع لأية لغة ميتافيزيقية أو ما ورائية، في إجراء هو أشبه ما يكون بترجمة النصوص التراثية.

أما في كتابه "مذكرات بول ديمان" الذي صدر عام 1984، فقد عدَّ دريدا التفكيك تجربة مربكة للمستحيل، وهو التعريف نفسه الذي استعمله في كتابه "Aporias"، الصادر سنة 1996، فقد عدَّ التفكيك ضروريًّا ومستحيلًا في الوقت نفسه، ومتعدد الأطياف والأصوات واللغات بأساليب غير قابلة للترجمة فيما بينها.

التفكيك والعدالة وتجربة المستحيل

في كتابه "قوة القانون: الأساس الروحي للسلطة" الصادر سنة 1994، شبه دريدا التفكيك بالعدالة؛ لأن كليهما قوة أساسية تعمل على حدود اللغة؛ أي إنه يتجاوز أطر وحدود التفكير المألوفة إلى فضاءات غير تقليدية؛ ذلك أن كلًّا من التفكيك والعدالة يستندان إلى أبعاد روحية مفتوحة، لا على أصول عقلية مغلقة.

في كتابه

هذا التشبيه يشير إلى توتر بين عدالة منشودة لا يمكن تحقيقها إلا بأسلوب غير مباشر، وهو ما يعبر عنه بتجربة المستحيل، ونظام قانوني يعبر عنه بالممكن؛ فالعدالة -حسب دريدا- وكذلك الشأن بالنسبة إلى التفكيك، تحتاج إلى مرونة وسلاسة يخلو منهما النظام القانوني الصلب بطبعه.

التفكيكية وبديهية انفتاح المستقبل

ينطلق التفكيك من بديهية انفتاح المستقبل، وهي بديهية غير قابلة للإثبات ولا للتفكيك، شأنها في ذلك شأن العدالة المرتبطة بها. فالعدالة -حسب دريدا- توجد وتأتي إلينا من المستقبل، متعالية على كل قانون وضعي، وعلى المنطق والزمان. فعلى الرغم من أن التفكيكية لا تؤمن بالحتمية ولا باليقين المطلق، فإنها تُعد التفكيك أمرًا ضروريًّا ولا مفر منه؛ ضروري، ولكنه يسعى خلف المستحيل في نفس الوقت.

وهذه الاستحالة تتجلى بالتفاعل مع الآخر المختلف، فالتفكيك هو وضع القدم في مستقبل مجهول دون أي استعداد أو تنبؤ بطبيعة هذا المستقبل، سوى أنه يحتضن الآخر المختلف تمامًا، وهذا ما يضفي طابع الوجوب على هذه المهمة التي تبدو للوهلة الأولى صعبة أو مستحيلة.

التفكيكية وسؤال الماهية

إذا كان التفلسف قائمًا -على امتداد تاريخ الفلسفة- على سؤال الماهية "ما هو؟"، فإن دريدا يحاول استجواب هذا السؤال نفسه، كما يستجوب باقي المفاهيم الفلسفية التقليدية، وكل ما يمكن أن تنقله اللغة من رموز وكلمات، لا بهدف الحصول على إجابات محددة ونهائية بشأنها، ولكن بهدف تحويلها وفك التشابك الذي يكوِّنها، مستخدمًا في ذلك عقلانية من نوع خاص، صاغ لها مقولات جديدة، لا تستند إلى أية قواعد أو شروط مسبقة.

في كل مرة حدث فريد

من التعريفات التي عرَّف بها دريدا التفكيك أنه "ما يحدث"، في كل مرة، حدث فريد، حدث غير متوقع، دون سبب ولا دليل يدل عليه قبل حدوثه، حدث يكون مرتبطًا فقط باللغة وميزة التكرار التي تتصف بها، وكذلك بما يلحق بها من إضافات ومكملات، ما يسهم في هدم كل التناقضات والحدود المزعومة التي تحاول اختزال أو السطو على المعنى، ولكن في كل مرة، ينتج حدث فريد من نوعه وغير متوقع. فاللغة في حد ذاتها -حسب دريدا- ليست محايدة أو موضوعية، وليست نظامًا ثابتًا من العلامات التي تقرر المعنى كما يرى البنيويون، ولكنها نظام من الإشارات يؤجل المعنى باستمرار إلى ما لا نهاية.

جوهر التفكيكية.. كل شيء يتأثر ويؤثر

يرى دريدا أنه عندما يحدث حدث ما، فإنه يؤثر في الواقع بطريقة آلية ومباشرة، فكل شيء يتأثر ويؤثر ويتحول، وهذا جوهر التفكيك، -فعلى الرغم من رفض التفكيك للجوهرية، فكل المجالات تخضع له دون استثناء، الكلمات، والمفاهيم، والأشياء، حتى التعارض الكلاسيكي بين الظواهر والأشياء في ذاتها خاضع للتفكيك أيضًا. فكل الاحتمالات واردة، ولا وجود لحتمية مطلقة.

التفكيك لا يعترف بالتحديد والتعريف

على الرغم من أن التفكيك يستخدم التحديد في تعريف مصطلحاته؛ فإن هذا الإجراء لا يتجاوز التسمية لتوضيح المفاهيم بعضها من بعض، أما التفكيك في حد ذاته، فإنه لا يعترف بالحدود الثابتة، فكل الحدود متحركة ومتحولة وتتفاعل فيما بينها باستمرار. وعادةً ما يركز التفكيك على استهداف المفاهيم والأفكار والظواهر التي تبدو للوهلة الأولى غير قابلة للتجزئة أو التقسيم، أو التي تدَّعي احتواءها على أسس أو أصول صلبة، وهو ما يجعلها عرضة للمساءلة والاستجواب، لا لشرحها وتفسيرها، ولكن بهدف تفكيكها لتحويلها.

يرى دريدا أنه عندما يحدث حدث ما فإنه يؤثر في الواقع بطريقة آلية ومباشرة

التفكيك وإعادة البناء

حسب دريدا، فإن التفكيك يستهدف جميع المجالات المعرفية والثقافية والاجتماعية، ولكن عملية التفكيك لا تعني بالضرورة الهدم، بل هي إعادة بناء، فتفكيك مفهوم ما يؤدي أحيانًا إلى تقويته بإحياء بعض جوانبه التي قد تكون مخفية أو وقع إغفالها بنمط من الأنماط.

التفكيك الداخلي والخارجي

تجري عملية تفكيك مركزية اللوغوس على المستويين الداخلي والخارجي للنص؛ داخليًّا عبر الاشتغال على فجواته المخفية وتناقضاته، وعلى المواضع المرنة والمتحركة فيه، بل حتى على العناصر التي قد تبدو ثانوية أو هامشية، أو التي تحيط بالنص، وكذلك عبر نقد النظريات التي تتعارض مع مبادئ التفكيك، مثل البنيوية، مع الأخذ في الحسبان أن تفكيك نص ما لا يبيح تدميره، بل يجب الحفاظ عليه سليمًا.

أما على الصعيد الخارجي، فبالعمل على إعادة خلط أوراق المنظومات المفاهيمية والفكرية، والمؤسسات التي تتحكم في النظام المعرفي السائد، وعبر إدخال مفاهيم جديدة وغير تقليدية، خاصةً تلك التي يمكنها خلخلة مركزية اللوغوس، وأيضًا عبر إيلاء الأهمية المطلوبة للسياقات التاريخية والثقافية والاجتماعية ذات العلاقة بالنص، فعملية التفكيك تستهدف بالأساس المبادئ التي تمارس سلطتها وهيمنتها على النصوص أكثر مما تستهدف تفكيك النصوص في حد ذاتها.

النقد الموجه إلى التفكيكية

تعرَّضت التفكيكية -ولا تزال- إلى كثير من الانتقادات؛ من أهمها أنها تستخدم مصطلحات ومفاهيم غامضة ومعقدة، يصعب فهمها في كثير من الأحيان، ما نتج عنه سوء فهم وسوء توظيف انتهجته بعض الحركات الفكرية المعاصرة لمقولات ومفاهيم التفكيكية، وهو ما أدى إلى بروز آراء متحيزة في كثير من القضايا الثقافية والاجتماعية.

ويرى كثير من النقاد أن الفلسفة التفكيكية ظلت منحصرة في المجال الأكاديمي الضيق، أما اجتماعيًّا وسياسيًّا، فما يزال تأثيرها ضعيفًا. وعلى الرغم من أن مبادئ التفكيكية تدعو إلى الشمولية وتفكيك المركزية؛ فإنها بقيت متمركزة في الثقافة الغربية، ولم تستوعب التنوع الثقافي العالمي.

المرجع

بيار ديلان، [Derrida, la déconstruction]، موقع Idixa

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة