نحن ببحثنا عن الفساد الاجتماعي والعلل التي أصابتنا، ومن أين تسلل إلينا اليأس، إنما نريد أن نخترق بمسبار الفكر والروية كل الظواهر العرضية التي تتراءى للناظر في صورة الأمراض والعلل، وهي ليست إلا أعراضًا تتغير وتتطور حسب تغير المرض وتطوره، ما لو صرفنا السنين في درس أشكالها وأحوالها لما وصلنا بعد هذا الجهد الناصب إلا لمثل ما يصل إليه من تزدهيه الألوان الخلابة التي تأخذها السحب عند غروب الشمس أو شروقها، فيصرف عمره في درسها وهو غافل عن أسبابها التي تولدها.
لا جرم أن الباحث يظل يبتني النظريات ويدعمها ويبتكر الأسباب ويؤيدها، ثم يرى نفسه مجبرًا على هدمها وبناء غيرها كلما دله حسه على فسادها حتى يضيع عمره سدى أو يعيش قانعًا بما حصله على غير هدى.
ولكن هذا الباحث لو اهتدى بفكره أن لكل ظاهرة سببًا طبيعيًّا أو أسبابًا، أو لو سأل أهل الذكر من الذين أفنوا أعمارهم قبله في درس الظواهر الطبيعية، وعلم بهذه الواسطة أن أشعة الشمس واختلاف كثافات السحب هي السبب الأصلي في إحداث هذه الألوان الباهرة، واستعان على فهم ذلك بالرجوع إلى نظريات الضوء وانكسار الأشعة وألوان الشمس لرجع ظافرًا بمراده، فرحان بفوزه في اجتهاده، وإن كان كلفه ذلك أن يصرف عمره في درس علم الطبيعة وينزل إلى درجة صغار المكاتب، فإن ذلك أولى له من التفيهق بغير عرفان ووزن الأشياء بغير ميزان.
النظريات المتداولة عن العلل الاجتماعية
يكتب الكاتبون ويصيح الخطباء المفوهون بأننا مصابون بعلة أو بعلل اجتماعية تمنعنا عن الاستقامة على طريق التقدم والمدنية، وتجعلنا غرضًا لسهام المطامع الأجنبية، يقولون إن تلك العلة ألمَّت بعواطفنا فقتلتها، وبإحساساتها فأطفأتها، وبحميتنا فأخمدتها، وبإرادتنا فسلبتها، وحاصرتنا من مكان قريب حتى جعلت اليأس صفة من صفاتنا، وصيرته جزءًا من طبيعتنا، وقد أثمر فينا ثمراته المعهودة كالتبرؤ من الجنسية والتقليد للأجنبي والبذخ والسرف والترف والأثرة والتخاذل والتنابذ... إلخ من الأعراض التي هي لوازم اليأس ومقتضياته ثم ماذا؟
ثم نقول إن ذلك من عدم الدين، من عدم الفضائل، من عدم التربية، من عدم التناصر، من عدم التعاطف، من عدم الغيرة، من إحجام الأغنياء عن البذل، من قعود العلماء عن الإرشاد، من سوء سياسة الأمراء.. ثم ماذا؟ ثم نقول يجب أن نكون متدينين، فضلاء، متربين، متناصرين، متعاطفين، غيورين، باذلين، مرشدين، سائسين، ثم ماذا؟
كيف أثرت وسائل الإعلام في نشر الفساد الاجتماعي؟
نعيد ما بدأناه ونبدأ ما أعدناه ولا نزال نطوي ما نشرناه، وننشر ما طويناه، حتى سئم القارئ والمكاتب، ويئس السامع والخاطب، وأصبحت النصيحة والهذيان في مستوى واحد، فأغرانا ذلك على ولوج باب جديد؛ وذلك أننا أبدلنا النصائح بالشتائم، واستعطاف العزائم بسرد الذمائم، وتشهير المآثم، حتى صرنا لا نعد الكاتب نحريرًا، ولا الخاطب شهيرًا، إلا إذا ذهب في القذع كل مذهب، وأسهب في شرح المقاذر وأطنب، حتى أنست الأسماع بالثلب واستنامت الأفئدة للشتم والسب، وفقدت الأمة بهذا الضرب من التهذيب حرارة الحمية، وحماسة الرجولية، فنشأت بين ظهرانيها جرائد لا مادة لمقالاتها إلا الطعن والهمز، ولا روح لنصائحها إلا الغمز واللمز.
فنرى الناس يتحلقون لجريدة من تلك الجرائد فيتلوها عليهم واحد منهم وقد حوت من أنواع الفحش والتقبيح، بكل تلميح وتصريح، ما يستفز الحمية، ويقدح في زند العزيمة، ولكن الناس لاعتيادهم سماع المقاذر ينشطون القارئ بالثناء على الكاتب، والترنح لحسن ترادف المثالب، ثم يقول أمثلهم لقد بل فلان الغليل، وجاء بما يشفي العليل، وهلم جرا.
وبذلك فقد فعلنا بالأمة بكتاباتنا هذه ما لم تفعله ظبي أعدائنا بأعناقنا، ولا ختل مناقينا بمعاقد اجتماعنا، مع أن وظيفة التحرير ترقيق الأميال، وتلطيف الشعور، وإحياء الغيرة والحمية وإيقاظ الفتوة والرجولية، لا ثلم العواطف، وتغليظ الإحساسات، وإطفاء الحماسة، وتعويد النفوس على الاستنامة للشتائم.
وهذا الأمر الجليل سببه فيما أرى إسناد الأمر إلى غير أهله، فإن كل من استطاع عندنا أن يكتب العربية صحيحة لا يتأخر عن ندب نفسه لإرشاد أمته، ونعشها من وهدتها، ولو كان كل من يكتب بلغة صحيحة يليق لهذا المنصب الخطير للاق بكل إنجليزي أن يكون عمرانيًا، وبكل فرنساوي أن يكون أخلاقيًّا، فإن أكثر القوم يكتبون لغتهم بغير غلط، ويستطيعون أن يتكلموا في كل ضرب من ضروب الكلام! لكن هيهات، ذلك منصب يعد أهله على الأصابع ولا يبرر فيه إلا الشاذ النادر، فالباحث العمراني في هذه البلاد قبل أن يفكر في تأسيس نظرياته وسرد تعاليمه يجب عليه أن يعد الأذهان لقبولها ويهيئها لإحلالها من الأفئدة في محلها اللائق بها.
هل المشكلة في عدم الاتحاد أم في غياب التربية؟
إليك مثال يريك كيف أننا من تشخيص دائنا في خلط عظيم، ومن وصف دوائنا في خبط جسيم.. يقولون مثلًا إن داءنا (عدم الاتحاد)، ودواءنا هو (الاتحاد) ونحن نقول إننا لسنا بمصابين بعدم الاتحاد، وإن من اللازم لنا الاتحاد، ولكننا نقول إن عدم الاتحاد ليس هو مرضًا بذاته بل عرض من الأعراض الكثيرة.
وإن أردت أن تعرف كيف أننا واهمون فإليك: إن كان عدم الاتحاد هو الداء والاتحاد هو الدواء فما المانع عن الاتحاد؟ هل حسن لدينا البقاء على مضاضة المرض، وهان لدينا أن نكون لقمة سائغة للأمم؟ يقولون إن عدم اتحادنا ناشئ من سوء التربية وعدم العلم، نقول إذن فقد سقط قولنا إن داءنا (عدم الاتحاد) ولزمنا أن نقول إنه عدم التربية.
وإن كنا نعلق وجود الاتحاد على وجود العلم والتربية فكأننا نود أن نجعل كل الأمة فلاسفة لا يتحدون إلا بعد أن يضعوا المقدمات المنطقية ويستخرجوا منها النتائج الفلسفية، مع أننا نرى بأعيننا أن العامة اليوم أصبحوا أكثر تماسكًا والتئامًا من أكثر الخاصة، وقد كان آباؤنا قبل أن تنتشر بينهم المدارس أشد تلاصقًا واتحادًا منا في هذا العصر.
كل هذا يدلنا بالدلائل المحسوسة أن الاتحاد ليس نتيجة العلم ولا التربية بل هو لازم من لوازم الحياة الاجتماعية في الأمة، كما أن اتحاد أعضاء الجسم على أداء وظائفها وتعاضدها في أغراضها نتيجة الحياة الشخصية ليس إلا، وبهذا فقد استحالت المسألة إلى إدراك معنى الحياة الاجتماعية وكيفية الاتصاف بها.
العلاقة بين الأمراض الاجتماعية وترابط المجتمع
نظن أنه لا يخفى على واحد من قرائنا أن أعضاء الجسم الحي مرتبطة ببعضه ارتباطًا عجيبًا ووظائفها متعلقة ببعضها تعلقًا مدهشًا، حتى إنه قد يشكو الإنسان احتقانًا في عينه يكون سببه إمساك في معدته، بحيث إنه لا يستطيع دفع ذلك الاحتقان مهما داواه وعالجه إلا بإزالة الإمساك، وقد يشكو صداعًا في رأسه وتكون علته برودة أصابت قدميه، وقد يتوجع من ضرسه ويكون مثار وجعه برد أصاب جسمه، فيكون علاج الضرس الوحيد تعاطي سلفات الكنين حتى إن الإنسان ليندهش من هذه العلاقات البعيدة ولا يسعه إلا التسليم بها عندما يرى النتائج مطابقة للمقدمات، وهكذا الشأن في الأمراض الاجتماعية.
بل إن تفرعات تلك الأمراض وشعوبها تكون أشد ارتباطًا وتداخلًا بما لا يدخل تحت حصر، فنحن إن ذهبنا في تشخيص بعض أدوائنا مذاهب لا تتفق مع ما هو معروف في العادة فلا نقصد بذلك الأغراب وحب التفرد بالرأي، وإنما نقصد أن نكون موافقين لعلم العمران متبعين سمته، وإلا فلا فائدة من حشو الصحف بالكلام الذي ردده الناس سنين عدة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.