التاريخ كائن مخيف، ما إن تقع عيناي على بعض صفحاته حتى أشعر به وأسمع أصواته وأرى أحداثه وأحيا حِقَبه. كأنه غول فوق رأسي يحجب عني نور السماء، ويسد كل الآفاق، ويُمسك برأسي ويدق فيه المسامير، ويجبرني على السكون التام والصمت الصاخب. حينها أفقد شعوري بالزمان والمكان في حالة من انعدام الوزن والسقوط الحر دون لمس الأرض أو معرفة الجهات الأصلية أو الفرعية حيث لا فرق بين الأشياء وأضدادها.
كأن هذا الغول الضخم القبيح لا يمتلك القوة فقط، بل هو سيد الشغف المترع بالقهر وبعض الفرح. ورغم قبضته الهائلة فإني أستعذب هذه القبضة مثل الملابس الثقيلة المُحكمة فوق الجسد في فصل الشتاء فتشعرني بدفء هذا الأسر.
وعندما أفيق من إحدى نوبات التاريخ تتجدد الإصابة السرمدية بكسر مضاعف في العقل والقلب، ويعود التأمل والتفكر في أحداث النوبة. فهدم دول كاملة والفتك بالبشر بها ونسف آمال الفتية والفتيات وسعادة الأطفال وحرق الحيوان والأشجار والثمار واستعباد الأحرار لا يكلف التاريخ إلا عدة سطور يصف فيها كل هذه الجرائم.
التاريخ يشبه المذيعة ذات الشعر المسترسل، والأعين الواسعة ذات الأهداب الحادة، والوجه الذي يشبه اللوحات السريالية بالمساحيق الصناعية، وأسنانها البارزة إثر ابتسامة لزجة لتتلو علينا نشرة الأخبار، والخبر الأول مقتل عدة آلاف في هجوم حربي، ولا تزال الابتسامة تعلو وجهها الملون.
التاريخ خبر الأمس، وخبر اليوم تاريخ قائم يذكِّرنا بالخبر القديم وركلاته المذلة ليهيئنا لركلات جديدة نتقبلها في سكون تام كما يرغب الغول. فهو ينزعج من التأوهات ولا يقبل أية توسلات؛ فلا طائل من وراء ذلك، فالأمر منتهٍ فلِمَ إضاعة الوقت؟
التاريخ هو جلاد الديموغرافيا الأثير وسجان الجغرافيا الدائم، وكلاهما عاجز عن الفعل أو رد الفعل.
صحيح أن غول التاريخ في البدء جزء من الديموغرافيا، لكنه الجزء العاق المنفصل عن أصوله، والعازم على أسر الجغرافيا لجلد الديموغرافيا، فهو جلادها الأثير.
يقول العقاد: من وعى التاريخ في صدره أضاف أعمارًا إلى عمره.
فهل حقًّا أضاف أعمارًا في ذلك الصدر، أم أضاف ثقبًا أسود معتمًا في (الزمكان) لا يمكن لأي شيء الإفلات منه، وتقاس عليه كل أحداث الحياة، فتتحول إلى ثقوب سوداء لا تصدر صوتًا ولا ضوءًا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.