«الغرفة 240».. قصة قصيرة

انفتحت بوابة الكراجات الضخمة لدخول الحافلة التي نقلت حيدر الحمدان وريحانة العبود إلى فيافي العاصمة المرة الأولى في حياتهما، ووجدت ريحانة ذاتها خفيفة رشيقة الأحلام ترسم مستقبلًا مخمليًّا يقترن بحيدر.

رافقها حيدر ذلك اليوم إلى أحد الأحياء المخالفة التي تطوق المدينة للوصول إلى عنوان أختها؛ كي تقيم في بيت صهرها، في حين هو سيقطن في السكن الجامعي..

ثلاثة أسرة في الغرفة 240 في المدينة الجامعية، وطالبان استقبلا حيدر بابتسامات صفراء، وبتعارف بارد..

اقرأ أيضًا: مطر أول نيسان.. قصة قصيرة

شهران تكفَّلا بمعرفة ريحانة لآلية عمل صهرها في تعهدات الأبنية المخالفة وعلاقته الفاسدة مع البلديات، وإمكانياته بإنجاز بناء من خمسة طوابق بسرعة قياسية ومن دون توافر شروط البناء السليم، وعمله قوادًا يؤمِّن فتيات يتاجرن بأجسادهن لتقديمها وجبات ورشاوي لتسيير أضابير ومعاملات حساسة، وعلاقته المشبوهة بعلوش النبهان الذي كان ينظر إلى ريحانة برغبة وقحة تكشفها عيونه وإيماءات وجهه كلما عبر بسيارته الفارهة من أمام بيت صهرها ليسلم مغلفات ويستلم أضابير..

شهران في العاصمة كانت أيضًا كافية لتورط حيدر الحمدان بمواجهات فكرية في الغرفة 240 مع زميليه المشبعين بأفكار تكفلت بسرعة وصوله إلى قناعة أنه يتعذر تساكن كل هذا التعارض في الغرفة 240.

ذلك المساء الذي حمل برودة ليلية خريفية، كان لتشابك أصابع ريحانة وحيدر وقع آخر، في عتمة الليل وبجوار شجرة مخصصة للهمس، وتوقد الأعماق في حديقة السكن الجامعي.. لخص حيدر هاجسه بسؤال: ماذا لو تم تفريغ الغرفة 240 غدًا؟

في اليوم التالي استعجلت ريحانة بزيارة المدينة الجامعية وتحققت من أن الغرفة 240 مغلقة، فلم تجد سوى صهرها وعلوش النبهان الملاذ الوحيد لمعرفة مصير حيدر..

زاد علوش النبهان اهتمامه بريحانة التي ظلت شهرين منقطعة عن الجامعة وتترقب سماع صوته الأجش ليبلغ صهرها خبرًا مهمًّا..

سقطت السماعة من يدها واستندت على كتف أختها وهي تهمس ذارفة دموع الفرح: حيدر حر طليق.. توسط له علوش النبهان.. سأراه.. سأقابله بعد ساعة..

كان صوت علوش النبهان ما زال في السماعة.. حتى استعادت ريحانة توازنها واستمعت مجددًا إلى علوش النبهان، محددا لها تفاصيل تسلمها حيدر..

سيارة خاصة نقلت ريحانة إلى مكان في حي فاره للأثرياء، حيث وجدت ريحانة نفسها في شقة تحولت إلى عالم مريب مع لحظة انتهاء ريحانة من شرب العصير وقد بدأت تشعر بمقدمات تخدير اقتنصها رويدًا رويدًا وهي تسأل بتثاقل الشفاه: أين حيدر؟

اقرأ أيضًا: الحبّ خارج الصندوق.. قصة قصيرة

عندما استيقظت ريحانة وجدت نفسها على سرير مخملي في غرفة نوم فارهة تغزوها دوائر دخان ينفثها علوش النبهان العاري الذي يخفف من دهشة ريحانة بالهمس:

اطمئني.. حبيب عمرك وصل إلى الضيعة وهو بأمان وتم التأكد من براءته.

منذ تلك اللحظة تجذرت بأذن ريحانة قهقهات علوش النبهان وتهديده لها:

يمكننا القيام بمسرحية زواج مؤقت، أتزوجك بضعة شهور وأحررك كي يقتنع الناس بأن ما حدث لك تم على سنة الله ورسوله، أما إذا فكرت (بغير ذلك) فويلك وويل حيدر من غضبي..

تضغط على بطنها وتصر فخذيها طوال مسافة الطريق الذي أوصلها إلى قريتها مغتصبة الأحلام وفاقدة بكارتها..

هكذا الوقائع السرية والصمت عليها يغير مصائر الناس، ولم تمتلك ريحانة مقدرة البوح لحيدر بأنها أضمرت الانتقام على طريقتها، وأنها في مجتمع لا يرحم المغتصبة ويتصرف معها بقسوة المغتصبين ذاتهم، ولا يعترف أنها ضحية، ولا يمكنها إلا أن تتصالح مع مغتصبها ولو إلى حين..

اقتصر إشهار زفاف ريحانة العبود وعلوش النبهان على أفراد العائلتين والمقربين منهم، وبعض المدعوين من القرية الذين أمكنهم الحضور إلى صالة الأفراح للمشاركة في زفاف كانت سيدته ريحانة عروس الابتسامات الصفراء..

وبينما يمسك علوش النبهان بخصرها في رقصة العرس، ويوزع ابتساماته وبعض القهقهات، اقترب فم ريحانة من أذنه..

أحمل منك نطفة اغتصاب وأنت غارق في الرقص أيها القذر، أرجوك اختصر هذا الحفل ولا داعي لاستطالة المسرحية!

خلال الشهر الأول من زواج ريحانة تكفل علوش النبهان بضمان سرية التخلص من (ثمرة) اغتصابه لها، وأعادها إلى جامعتها بفضل نفوذه، وألغى قرار فصلها بسبب الانقطاع عن الدروس العملية والنظرية..

وها هي ريحانة تخوض التجربة الأقسى في حياتها عندما تتعايش ضحية الاغتصاب مع مغتصبها..

اقرأ أيضًا: الرقص بين المرايا.. قصة قصيرة

كثفت ريحانة زياراتها لبيت أختها الجديد بعد قيام صهرها بنقل سكنه إلى حي فاره، ومثلت جرأة فساده العلني بوابة الحصول على وثائق تفضح علاقته بعلوش النبهان الذي يرعى تعهدات فاسدة وأعمالًا تجارية حساسة..

أصبحت خزانة صهرها والملفات المخزنة في غرفة مكتبه بسكنه الجديد الشغل الشاغل لريحانة بحماسة كبرى من أختها..

وتسأل ريحانة أختها الكبرى: أتعلمين أن هذه الملفات ستعصف بزوجك؟

فتجيبها: كيف أركن له وقد وضب اغتصابك صفقة من صفقاته مع علوش النبهان، حتى إنه لن يوفر إهدار كرامتي إذا أتيحت له صفقة ما، أنا ضحية طلاق نفسي وآن له أن يتحول إلى طلاق فعلي، ولديَّ أدلة كافية على خيانات زوجي لي وأنه متعهد اغتصاب أيضًا!

بدأت ريحانة التركيز على مستندات ووثائق عمل شركة للتجهيزات الطبية يديرها فعليًّا صهرها، في حين تحفل إدارتها بأسماء صورية كمستلزمات لممارسة أعمال تهريب شديدة الخطر وواسعة النطاق..

يوم الانتقام كان بمنزلة العرس الحقيقي لريحانة، وقد صدرت صحيفة محلية بعناوين بارزة عن فضيحة شركة تجهيزات طبية ومجموعة من رجال الأعمال تجارتهم مشبوهة..

لم يمر أسبوع إلا وكان أكثر من عشرة متورطين موقوفين على ذمة التحقيق، وبينهم صهر ريحانة وعلوش النبهان الذي لم يفلح نفوذه بلفلفة الفضيحة؛ لأن شبكة المتورطين رفيعة المستوى، وتم التضحية به لأنه الحلقة الأضعف.

حول طاولة مستديرة تزاحمت فيها قطع من الجاتو والعصائر.. وقف والد ريحانة معلنًا احتفالًا منزليًّا بتخرج ريحانة من كلية الطب البشري، وفرحًا بتحرر العائلة من سطوة شبكة الصهرين، موضحًا لريحانة بأنه ليس كل الفاسدين بالسجون..

ارتسمت علامات الفرح على محيا الدكتورة ريحانة وأختها، وما كادت تهم ريحانة بقطع الجاتو حتى تكفَّلت شاشة التلفاز باقتناص الاهتمام مع مشاهد مفجعة لتفجير كبير ومزدوج يهز العاصمة ووقوع عدد كبير من الضحايا ودمار واسع في المكان.

نظرات الذهول والانكسار تقتنص الاحتفال العائلي، والعيون تتبلل بالدموع، صراخ يخلخل المكان، في حين يضع والد ريحانة يده على صدره وهو يوصي ابنتيه بالحيطة والحذر؛ لأن البلاد تدخل مرحلة شديدة الخطر...

قال آخر كلماته وهو يسقط أرضًا بلا حراك..

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة