تُعد الفلسفة سابقة على النقد كما هو شائع، سواء على مستوى التنظير أو على مستوى التطبيق. بيد أن الأمر يبدو عكس الظاهر، إذ النقد هو الأسبق وإن كان انطباعيًّا في بداياته. فسبب الحوارات الفلسفية اليونانية الأولى، هو نقد الإنسان ونشاطاته. فكان بذلك أن الفلسفة وليدة النقد.
أجد في الفلاسفة ما أجده غريبًا غرابة السذَّج أو غرابة العباقرة، وأستثني منهم الفلاسفة المؤمنين الذين اهتدوا إلى الحقيقة بتوفيق من الحق.
النقد ضرورة وجودية قبل ولادة الفلسفة
فكلما نسلت عن روحي ثياب قلاقل الحياة وقفزت مباشرة من يابستي إلى بحر الفكر والفلسفة، محاولًا التعلم والاستمتاع بالفكر وترويض النشاط الذهني، لكي يحصل الاتصال النسبي مع الحقيقة التي يقذف بها بحر الفلسفة إلى ساحلها، تتلقفني أمواجُ نظرياتٍ وتصوراتٍ تتخبَّط في اتجاهات مختلفة ومتعددة بغير هدى. ومن ثم أجد نفسي دون سابق إنذار أنجذب شيئًا فشيئًا إلى أغوار هذا البحر الفكري.
وللحظة ما ينتابني شعور بالدهشة والإعجاب إزاء ما ألقاه من معانٍ ودلالات. إذ ذاك هو شعور يمتزج بذلك الخوف الذي يُنسي الإنسان حقيقة أنه على وشك الموت جرَّاء نُدرة أوكسجين الحقيقة. أليس الإنسان يحيا بالحقيقة، وفي الحقيقة، ومجيئه من الحقيقة وذهابه إلى الحقيقة؟ فلتأذنوا لي إذن بالقول إن أكسجين الروح هو الحقيقة. ثم بعد ذلك أجدني وبحر الفلسفة يطفو بي إلى سطحه لأتنفس أوكسجين الحقيقة، فأدرك في التّو أني حيٌّ وما زلت حيًّا، فكان ذلك مَيْسَمًا فارقًا بين الإنسان الحيّ والإنسان اللَّاحي.
شتيرنر ونيتشه بين الأوحد والإنسان الأعلى
في يوم ما من الأيام لا بالبعيد ولا هو بالقريب كنت أقرأ لـ«شتيرنر» وبالضبط كتاب «الأوحد وملكيته»، فتوقفت هُنيهة لم أدرك سببها، وسرعان ما دبَّت إلى ذهني خيالات مرتبطة بفكر صاحب الكتاب مع فكر «نيتشه»، خاصة فيما يتعلق بالإنسان الأعلى وموت الإله.
فطفقت ممتطيًا صهوة خيالي إلى أن أوقفني على ثخوم منظر يبدو لي منه أن معظم هؤلاء الفلاسفة كمن في زنزانة فكرية معتمة -لكن العتمة ههنا ليست ظلامًا ولا جهلًا بل حقائق خفية عنهم جرَّاء ظلامهم وجهلهم بها- فيذرعونها طولًا وعرضًا باحثين عن منفذ يفضي بهم إلى باب عتبات النور المعرفية.
زنزانة الفلاسفة.. كيف يُضيء العقل وسط العتمة؟
الغريب أنهم يفعلون! يحصل أن يتفق لهم بعد تأمل فكري شاق ومضنٍ في زنزانتهم الوجودية، أن يكتشفوا نوافذ جمَّة تتسلل منها شعاعات نورية تصطبغ بحقائق نسبية في لون ذهبي. لكن الباب الأوسع المفضي ضرورة إلى نور الحقيقة المستطيرة وجوديًا، يظل مجهولًا لأولئك الفلاسفة. أهو جهل يعود إلى استحالة ووعورة الوقوع على ذاك الباب بفعل عتمة ذلك الحيِّز الوجودي، أم لقلَّة تلك الومضات الشعاعية؟ أم هو جهل ذاتي نابع من عدم فهم وإدراك وإحكام وكيفية وصل تلك الشعاعات ببعضها، للاهتداء بها إلى طريق ومكان ذلك المخرج أو الباب؛ باب الحقيقة؟
بين الماهية والوظيفة.. ما حقيقة الفلسفة؟
في محاولة للحديث عن ثنائية «الماهية» و«الوظيفة»؛ حقيقة ماهية الفلسفة وحقيقة وظيفتها، نجد الأمر يتطلب شيئًا من الحفر الأركيولوجي لتداعيات الفلسفة تأصيليًّا. فما مقتضيات اكتشاف -وليس خلق- إحدى ممارسات الإنسان التي تواضع عليها بمصطلح ممارسة التفلسف في حواراته الأولى اليونانية؟ حيث تبدو -هذه الممارسات- في تصورنا طبيعية، وهي فعلًا كذلك، غير أنها تتباين من إنسان لآخر في استعمالها تبعًا لتباين مقياس الوعي بها.
إنه الشيء نفسه يحدث قديمًا وراهنًا، أعني الإنسان ودائمًا الإنسان؛ إذ هو وحده يفتعل الأشياء ويكتشف الأشياء. بمعنى أن قضايا الإنسان العقائدية والاجتماعية وليدة تلك الحوارات الفلسفية الأولى التي ناقشتها وقاربتها. وبصورة أوضح، كان الإنسان الدافع المركزي وراء تلك الحوارات الفلسفية، ومن ثم كانت هذه الأخيرة الشرارة الأولى التي أذكت نار الفلسفة؛ إما أن تفقهها فتهديك، وإما أن تكتفي وعيًا بالمسألة فتكتفي باصطلائك، أو تحيد عن حقيقة جوهريتها فتحرقك.
الفلسفة والنقد والإنسان ثلاثية تكوين الحقيقة
كل هذا يقودنا للحديث عن عنصر يستحيل فصله عن الفلسفة شأن استحالة فصل الدال عن المدلول في التصور الألسني. إنه عنصر النقد... أليست مناقشة ومقاربة مشكلات الإنسان وظواهره الاجتماعية والعقائدية تُعد في حدِّ ذاتها نقدًا؟
إذا سلَّمنا بهذا، وهو كذلك في نظرنا، فإن الحوارات الأولى اليونانية التي كانت سببًا في ولادة الفلسفة، كان سببها الأجدر هو النقد، وبهذا أمكننا القول إن الفلسفة وليدة النقد، عدا أنه كان انطباعيًا ذاتيًا لا يرتكز على قواعد وضوابط محكمة، إذ المعلوم أن النقد قديمٌ قِدَمَ الإنسان، ونمارسه في كل أنشطة حياتنا اليومية.
النقد الانطباعي الفطرة الأولى للفكر الفلسفي
حينما تشاهد فيلمًا ما، تُدلي برأيك فيه بذاتيتك دونما موضوعية، فعملك هذا يُدعى نقدًا. كذلك، حينما يُطلب منك النّظر في أمر شخصين لحلِّ ما شجر بينهما، تصدر حكمًا يكون قيميًّا ينبع من مرجعيتك الثقافية والتجريبية، وهذا العمل هو الآخر يُدعى نقدًا انطباعيًا دون قواعد وآليات. وقِس على ذلك أشكالًا مختلفة من الأنشطة اليومية.
هل يمكن فصل النقد عن الفلسفة؟ تأمل في العلاقة التكوينية
فتبعًا لهذا، نُقرُّ بأسبقية الفلسفة على النقد من ناحية اكتشافها والتقعيد لها، وإن كان هو المُمهَّد لها. كما نقرُّ بتبني النقد -فيما بعد- لمعظم التصورات الفلسفية، سواء على مستوى التنظير أو المقاربة.
لكننا نُقرُّ أيضًا، بصورة جديدة، أن النقد هو روح العلم، والفلسفة -الهادية إلى الحق- فكره، والإنسان جسده؛ ذلك أن العلم أقوى شيء في الوجود وفي ما وراء الوجود، ثم إنه ليس للوجودِ وجودٌ دون علم؛ بالعلم وُجِد الوجود وبه سيختفي.
كذلك كان، وما زال، وسيظل أعظم وأكرم شيء جاء للوجود -وعن علمٍ- لهو الإنسان، فلا غرو أن يتجسد العلم في الإنسان أو يتجسد الإنسان في العلم، إذ الأعجب هو ذاك «الأنا» في الإنسان الذي دائمًا يفتعل الأشياء وقلَّما يكتشف الأشياء.
احسنت النشر
شكرا لك على هذا الإطراء
مقال مُوفق..دام إبداعك
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.