في هذا الجزء نكمل ما بدأناه في الجزء الأول حول تقدم المسلمين وإنجازاتهم في العلوم الدنيوية المختلفة، وإسهامات العرب المسلمين في علوم الفلك والرياضيات وغيرها ووضع حجر الأساس في كل علم.
لماذا تتقدم أوروبا علميًا في الوقت الحالي؟
إن ظن بعضنا أن انسلاخ أوروبا عن المسيحية هو سبب تقدمهم العلمي اليوم، فهذا ليس بدقيق؛ لأن أوروبا إنما انسلخت عن حكم الكنيسة وليس عن المسيحية؛ لأن المسيحية تمامًا كالإسلام لا تدعو إلى الجهل، لكن الكنيسة التي تحكمت بالدين المسيحي وفسرته كما تريد، هي من فعلت ذلك؛ لذلك تبنى الأوروبيون بعد الثورة الفرنسية مبدأ «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس»؛ لأن من مارس الاستبداد على الناس في أوروبا وقتها هم القساوسة والملوك.
ثم فلننظر حولنا، فنجد أممًا لم تكن تتبع دينًا سماويًّا، ومع هذا لم يكن لها حضارة قديمة، وهي لا تزال إلى الآن لا تتبع دينًا سماويًّا، ولكن لها اليوم حضارة كبيرة، كاليابان مثلًا، كما نجد أممًا أخرى لا تتبع أي دين، وكانت جاهلة ومتخلفة، ولم تظهر الحضارة في أبنائها، وما زالت كذلك إلى اليوم على إلحادها وتخلفها وجهلها.
العلاقة بين العلم والتمسك بالدين
قد يقول قائل إننا بذلك ننصر قول العلمانيين الذين يقولون إن الدين ليس له علاقة بالحضارة والتقدم العلمي للشعوب؛ لأن الحضارة ملكها عبر التاريخ شعوب مختلفة، منها من كان يتبع دينًا سماويًّا، ومنها من لا يتبع أي دين، فلماذا نُرجع تخلفنا نحن المسلمين إلى عدم التمسك بديننا؟
نقول إن هذا ليس بصحيح لسببين:
أولهما أن الإسلام كان سببًا في تطور المسلمين وقيام حضارتهم؛ لأنه هو من وجَّههم لكسب العلم، وهو من حمى حضارتهم من المادية التي كانت سببًا في تدمير الحضارات السابقة؛ لأن الله ينصر من ينصره، فمن أقام شعائر الله نصره الله، نصره بالتأييد العسكري والعلمي والاقتصادي والاجتماعي، وجعل له الأمن والتمكين.
أما السبب الثاني، فيتعلق بالدنيا نفسها التي لم يجعلها الله للمسلمين وحدهم، بل جعلها لكل الناس؛ لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة. فالله سبحانه وتعالى يبتلي الإنسان بالخير والشر، يبتليه بالخير فتنة وإقامة للحجة، وهو ما نراه مثلًا عند الأمم التي لا تطيع الله.
ومع هذا مكن الله لها في الأرض. ويبتليه بالشر عقوبة وامتحانًا، عقوبة للعصاة، وابتلاء للصالحين والأبرار. فالله هو الرحمن الرحيم، رحمن في الدنيا، شملت رحمته كل الخلق، عاصيهم ومطيعهم، ومسلمهم وملحدهم. ومن رحمته في الدنيا بسط العلم والمال والشفاء لكل خلقه، ورحيم بالآخرة، فلا تكون رحمته يوم القيامة إلا للمسلمين.
لذلك، فقد يدعو المشرك إلهه وهو في وسط البحر فينجو، فهل يُقال إنه دعا من أنجاه، وإن وقوع النجاة له يعني صحة معتقده؟! طبعًا هذا محال. كل ما في الأمر أن رحمة الله لحقت به على الرغم من عصيانه له؛ لأن الله رحيم بالعباد، فحدوث النتيجة لا يعني أن الطريقة صحيحة دائمًا، فالله أنجاه رحمةً به وابتلاءً واختبارًا، ثم إنه قد يستر الله السارق بعد سرقته لينعم بالمال، ليزيد في طغيانه، ويلقى العذاب يوم القيامة، إلا إن سلك طريق التوبة.
أسباب النهوض العلمي وقيام الحضارات
إن السبيل الوحيد للمسلمين للنهوض من جديد، هو الأخذ بالأسباب المعنوية والمادية لهذا النهوض. الأسباب المعنوية تتلخص في القيام بأوامر الله وترك ما نهى عنه، أما الأسباب المادية، فهي الأخذ بأسباب العلم، من تعلم وتجارب وتحصيل، وغير ذلك من أسباب قيام الحضارات.
لقد كبَّلت الكنيسة التفكير الأوروبي في العصور الوسطى، وكانت سببًا في تأخره، كما كبَّل التصوف عقول المسلمين في العصور الحديثة، وكان سببًا في تأخرهم.
ولسائل أن يسأل: هل يقول العقل إن الدول الإسلامية المتخلفة لن تلحق بركب الدول المتقدمة إن لم تأخذ بكل ما تجده عند الشعوب المتقدمة من تصرفات وعادات وتقاليد؟ هل يقول العقل إننا مثلًا لن نستطيع الاستفادة من علوم الدول الغربية إلا إذا قلدناها في الملابس والعادات، والأكل وطريقة الكلام؟ أي عقل يقول بهذا؟!
إنها الحقيقة المرة التي أشار إليها ابن خلدون بقوله: «إن الضعيف دائمًا مغرم بتقليد القوي». الانبهار جعل الضعيف يقف جامدًا، معتقدًا أنه لن يصل إلى ما وصل إليه القوي إلا إذا قلّده، واستورد منه ثقافته. فيجب أن تلبس نساؤنا مثلًا ملابس نسائهم، لأنها ملابس نساء الدول الأوروبية المتقدمة!!
هل يقول العقل إن رابطًا بين تلقي العلم ونوع الملابس؟ هل يقول العقل إن العلم مثلًا يرفض أن يدخل إلى دماغ بناتنا، ومن ثم إلى بلادنا، لو ظل الحجاب موجودًا فوق رؤوس نساء المسلمين؟ ويلهم! كيف يحكمون!
بالتوفيق
وفقك الله
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.