العلاج بمساعدة الحيوان.. كيف يصير الحيوان طبيبًا؟

في خمسينيات القرن الماضي، وفي أثناء إحدى جلساته مع طفل يرفض أن يتكلم وغير متعاون، لاحظ عالم النفس الروسي "بوريس ليفنسون" تفاعل هذا الطفل مع الكلب الخاص به "جينجلز" -الذي كان موجودًا بالصدفة- بعد رفض تام للحديث ودون أي ترتيب مسبق من ليفنسون.

لم يكتفِ ليفنسون بتلك الملاحظة، وقام بكثير من البحوث فيما يخص استخدام الكلب الخاص به في جلساته، فكان أول من صاغ مصطلح (العلاج بالحيوانات الأليفة) عام 1964م.

لكن لم يكن ليفنسون أول من لاحظ هذا التأثير، فيوجد من لاحظه منذ آلاف السنين، ويوجد من أدرك أن للحيوان دورًا بارزًا في صحة الإنسان منذ قديم الأزل.

اقرأ أيضًا اختبار نفسي عبقري لسيجموند فرويد.. أي إنسان أنت؟

تاريخ العلاج بمساعدة الحيوان

تُعد (غولا) أحد أشهر الآلهة السومرية، وهي إلهة الصحة والشفاء في الحضارة السومرية.

كانت غولا تظهر دائمًا برفقة كلب، ويُعتقد أن السبب هو اعتقاد السومريين بأنه يمكن استخدام سعال الكلب في علاج كثير من الأمراض.

لم يكن السومريون فقط من يؤمنون بذلك، ففي معبد (أسقليبيوس) -وهو إله الطب في اليونان القديمة وابن الإله أبولو- نجد ألواحًا منقوشة تنقل لنا قدرات الكلاب الخارقة: «ثوسون بن هرميون، طفل أعمى، لعق عينيه في وضح النهار كلب بجانب المعبد، ورحل معافى».   

وللشعوب البدائية نصيبٌ من تلكم الاعتقادات أيضًا. فحسب كتاب «وحوش، محتالون وأبقار مقدسة: حكايات حيوانات وهويات أمريكية» يعتقد شعب المايا أن لكل حيوان روحًا تحميه، وفي حال تعرض الحيوان لأي أذى، تنتقم تلك الروح من الفاعل، وفي كثير من الحالات يكون الانتقام على شكل مرض يصيب الفاعل، وقد لا يذهب المرض إلا بمساعدة حيوان ما آخر.

بطبيعة الحال كل شيء يتغير مع تقدم الزمن. فإن ظاهرة الاستعانة بالحيوان في العلاج قد تعرضت لبعض الاضطرابات في العصور الوسطى المظلمة لأوروبا.

لكن مع دخول أوروبا عصر التنوير، عادت ظاهرة العلاج بمساعدة الحيوان للبزوغ مجددًا.

برزت ظاهرة العلاج بمساعدة الحيوان في عصر التنوير بصفتها ظاهرة اجتماعية أكثر من كونها ظاهرة طبية.

فكان يُنظر إلى حيوان بأن لديه القدرة على تسلية المريض ومساعدته على الشعور بالأنس.

تقول البريطانية فلورنس نايتينجيل -الملقبة برائدة التمريض الحديث- في كتابها (ملاحظات عن التمريض: ما هو وما هو غير ذلك) والذي نُشر عام 1859م:

«يعد حيوان أليف صغير رفيقًا رائعًا للمريض، خاصة للحالات المزمنة الطويلة».

وفي مقال نُشر عام 1860م في Illustrated London News، يروي لنا قصة مستشفى "بثليم" بلندن. حيث كانت عنابر المرضى مليئة بالحيوانات الأليفة والطيور.

لكن دعونا لا ننسى، لا شيء يبقى على حاله مع مرور الزمن.

فمع مطلع القرن 20 طُردت الحيوانات من المستشفيات، ولم يعد للحيوانات ذكر في أي من أساليب العلاج.

ويرجع ذلك إلى تأصل مبدأ التجربة العلمية في مطلع القرن، فلا تصح النظرية إلا بتجربة علمية تثبتها، وهذا الذي لم تملكه ظاهرة العلاج بمساعدة الحيوان حينها، ويرجع أيضًا إلى زيادة الوعي بالأمراض والعدوى حيوانية المنشأ.

وعلى عكس سير الأحداث، وجدت هذه الظاهرة متنفسًا عن طريق التحليل النفسي في مطلع القرن 20 أيضًا.

(جوفي) هو اسم الكلب الخاص بالطبيب النمساوي الشهير ومؤسس علم التحليل النفسي (سيغموند فرويد). يروي لنا (ستانلي كورين) -الأستاذ بقسم علم النفس بجامعة British Columbia- في مقال على موقع Psychology Today كيف استعان فرويد بكلبه في جلساته.

في البداية كان وجود جوفي بالغرفة من أجل فرويد نفسه، فقد كان يشعر بالراحة والهدوء عند وجوده بجانبه في أثناء الجلسات.

لكن سرعان ما انتبه لتأثير جوفي على المرضى أيضًا، كان يبدو أن المرضى أكثر انفتاحًا على التحدث وخاصة التحدث عن الأمور المؤلمة في وجود جوفي بالغرفة.

ولاحظ أيضًا أن هذا التأثير يبلغ مداه مع الأطفال والمراهقين. استعان فرويد بكلبه أيضًا في الاستدلال على مدى توتر المريض عن طريق ردود فعل جوفي في أثناء الجلسة.

يقول فرويد في ذلك: «الكلاب تحب أصحابها وتعض أعداءها، على عكس الناس تمامًا، فهم لا يقدرون على الحب النقي، ودائمًا يضطرون إلى خلط الحب والكره في علاقاتهم».

ألهمت تجربة ليفنسون التي ذكرناها في بداية المقال كثيرًا من الاختصاصيين من بعده، عشرات الدراسات أُجريت في الثلاثين سنة الأخيرة تهدف إلى الوصول إلى حقيقة (العلاج بمساعدة الحيوان).

اقرأ أيضًا ألهو.. ألهي.. الأنا السفلي والأنا الأعلى "سيغموند فرويد"

ما العلاج بمساعدة الحيوان بمسماه الحديث؟

هو إجراء موجه لهدف صحي معين، مُصمم لتحسين الوظائف الجسدية، الاجتماعية، النفسية والذهنية للإنسان.

يتم بمساعدة حيوان مستوفٍ لمعايير محددة سلفًا، ويُقدَّم عن طريق مقدمي الخدمات الصحية مثل المستشفيات والعيادات المتخصصة.

وتكون الجلسات على شكل زيارات، يبني عن طريقها المريض علاقة مع الحيوان، وبدوره يكون الحيوان مُدربًا على قضاء وقت لطيف مع المريض.

والحيوان يمكن أن يكون قطة، كلب، حصان، طائر أو أي حيوان مُستأنس خاضع للمعايير.

هنا يتبادر للذهن تساؤل:

كيف يؤثر الحيوان في أجسادنا؟

كيف يؤثر الحيوان في صحة الإنسان؟

أُجريت كثير من الأبحاث لقياس تأثير العلاج بمساعدة الحيوان على أنواع مختلفة من المرضى مثل مرضى الأعصاب، القلب والشرايين وغيرهم. وأُجريت أبحاث لقياس قدرة هذا العلاج على تخفيف الآلام وتقليل الشعور بالوحدة والعزلة.

في دراسة أُجريت بمستشفى الأطفال في سان دييجو، قاسوا تأثير العلاج بمساعدة الحيوان على الإحساس بألم ما بعد العملية الجراحية في الأطفال. استخدم الباحثون مقياسًا لقياس الألم يسمى "faces pain scale"، وهو قياس للألم عن طريق ملاحظة تعبيرات الوجه.

تبين من نتائج الدراسة وجود تحسن ملحوظ في درجات استقبال الألم عند الأطفال بعد التعرض لجلسات العلاج بمساعدة الحيوان.

ويشير الباحثون في الدراسة إلى احتمال وجود سبب غير مباشر لذلك التحسن وهو سبب ذهني؛ وذلك لما يقوم به الحيوان من إلهاء الطفل عن الألم.  

مع وجود تفسير ثانوي آخر، فقد أسفرت كثير من الدراسات عن انخفاض ملحوظ في هرمونات التوتر مثل الكورتيزول وإبينفرين مع ارتفاع في مستويات هرمون إندورفين (وهو هرمون يفرزه الجسم للتخفيف من الإحساس بالألم) بعد جلسات العلاج بمساعدة الحيوان.

 وتوجد نتائج واضحة لدور العلاج بمساعدة الحيوان في تحسين الوظائف الجسدية والنفسية لمرضى المخ والأعصاب.

في دراسة شاملة جمعت 23 دراسة أُجريت على مرضى المخ والأعصاب، أسفرت عن تحسن ملحوظ في السيطرة على وضع الجسم والتوازن، سرعة المشي، التواصل الاجتماعي لمرضى التوحد والحالة النفسية والغذائية لمرضى الزهايمر

لعلي أسمعك تقول: هل هذا كل شيء؟ أيقتصر الأمر على مجرد زيارات من حيوان أليف يخفِّف الآلام قليلًا ويحفِّز العلاج؟ أقول لك: إذًا دعني أحدثك عن قدرة الحيوان على التنبؤ بالحالات الطارئة.

اقرأ أيضًا تحليل شخصية المجرم السايكوباثي في علم الجريمة

الحيوان طبيبًا

في 1989 بلندن وتحديدًا في قسم الأمراض الجلدية بمستشفى King’s college، تمكن الطبيبان Hywel Williams و Andres Pembroke من تشخيص سيدة تبلغ 42 عامًا بمرض الورم الميلانيني في فخذها.

الغريب في الأمر أن السيدة لجأت للكشف الطبي مدفوعة من كلبها، فهي تدعي أن الكلب كان يتشمم باستمرار المنطقة التي بها الورم في فخذها متجاهلًا بقية الجسد؛ ما جعل السيدة تشعر بالقلق ودفعها إلى أن تلجأ للكشف الطبي.

دفعت هذه الحادثة وما يشبهها من حوادث كثيرًا من العلماء للبحث في الأمر.

فقد أُجريت أبحاث على قدرة الكلاب خاصة على كشف أعراض نقص السكر في الدم، تنبؤ الصداع النصفي، تشخيص السرطان، والتنبؤ بنوبات الصرع.

في استبيان أُجري عام 2008 شمل 212 مريض سكر يملك كلبًا واحدًا على الأقل، تبين أن 138 من المرضى يجدون تغيرًا ملحوظًا في سلوك الكلب عند تعرضهم لهبوط في مستوى السكر في الدم. وقد يكون السلوك إصدار أصوات معينة، بأن يلعق الكلب مالكه، أو التحديق.

لحسن الحظ، ترك لنا الباحثون تفسيرًا محتملًا لتلك الظاهرة المتكررة.

عند انخفاض نسبة السكر في الدم وغيره من الأمراض مثل السرطان يحدث تغير في التكوين الكيميائي لسوائل الجسم مثل العرق؛ ما يؤدي إلى تغير في رائحة السوائل. ونظرًا لقوة حاسة الشم لدى الكلاب، يستطيع الكلب أن يلاحظ ذلك التغير في رائحة مالكه.

وقد يوجد تفسير آخر!

اقرأ أيضًا رواية عقدة أوديب من روائع الأدب الإغريقي

للحيوانات حقوق

كعادة هذا الزمن، خرجت أصوات كثيرة تهاجم هذه الظاهرة بحجة أنها سوء استغلال للحيوانات، وأن جلسات العلاج قد تؤدي إلى أذى جسدي ونفسي للحيوانات. لذلك قام الباحثون بواجبهم تجاه ذلك الاتهام ودرسوا الأمر.

في دراسة أُجريت لقياس تأثير جلسات العلاج في الحيوانات، وجد الباحثون تغيرات إيجابية في هرمونات إندورفين، أوكسيتوسين ودوبامين، ما يعني استمتاع الحيوانات بتلك الجلسات.

لكن لم تحسم تلك الدراسة الأمر؛ لاكتشافها ارتفاعًا في هرمون آخر قد يؤدي إلى نتائج مختلفة، وهو هرمون التوتر والضغط النفسي الكورتيزول.

يفسر الباحثون ذلك الارتفاع في الكورتيزول إلى أن الحيوانات تعد تلك الجلسات عملًا يجب القيام به رغم استمتاعهم به. مثل إنسان يعمل في مجال يحبه ويستمتع به لكنه بطبيعة الحال يستلزم مجهودًا ومثابرة.

لذلك يُوصى بالرعاية الطبية والفحص المستمر للحيوانات قبل وبعد الجلسات، وقد يُعلَن تقاعد حيوان نتيجة لتلك الفحوصات، بل قد ينال شهادة تقدير لعمله في مجال العلاج بمساعدة الحيوان.

على مر التاريخ كان الإنسان شاهدًا على ظواهر طبيعية عديدة عجز عن فهمها، ونظرًا لعجزه عن فهمها وعدم وضوح أية مسببات لتلك الظواهر، نسب تلك الظواهر لما وراء الطبيعة ونسج حولها أساطير وحكايات خرافية.

والعلاج بمساعدة الحيوان -مثله مثل كثير من الظواهر الطبيعية- خضع للتفسير الأسطوري وأيضًا خضع للتفسير العلمي الدقيق.

لكن ينبغي أن نعلم أن العلاج بمساعدة الحيوان مجال ينتظره عمل بحثي واسع، نحن نعلم الآن أن تلك الجلسات لها تأثير ما في صحة الإنسان.

لكن هذا التأثير لا يتعدى تحسنًا مؤقتًا للوظائف الحيوية في جسم الإنسان، مع وجود احتمال أن يكون أكثر من ذلك.

ونختم بتصريح مؤتمر Professional Resource Press المعني بنشر كل ما يخص علم النفس سنويًّا لعام 2017:

"يجب ألا تُعد التدخلات بمساعدة الحيوان ترياقًا، بل يجب أن تُعد فرصة قيمة للحياة يمكن أن تُشكل الفارق".

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة