إشكالية العقل والسلطة في الثقافة العربية من التقييد إلى التحرر

ليس العقلُ ملكةً ولن يكون.. بل يُخطئ منْ يقول إنه «حاسةٌ خفيةٌ» تشرفُ على الحواس الأخرى. فذلك يعني أنَّ دوره تحصيل حاصل لا جديدَ فيه، وأنَّه ليس مناطَ الفهم والفعل في حياة الإنسان. يسوق تاريخ اللغة العربية «تعريفًا ثقافيًا» عجيبًا للعقل، من ناحية حسبانه «رابطًا للأفكار» لا أكثر ولا أقل. ربطَ الرجلُ الناقةَ أي أوثقها ومنعها من الحركة خوفًا عليها من الشُرود.

وجذرُ العقل في العربية آتٍ من العِقَال الدال على «عِقَال البعير». يعقل الإنسانُ الأمور والأحوال.. أي يتدبَّرها وفقًا لمرجعيةٍ ما، يقلِّبُها ربطًا بما يؤكد الأبعادَ والجوانب. ولكن: ألا يُلقي التبادل الدلالي بين كائن «البعير» وكيان آخر «العقل» ظلالًا على إشكالية الفكر والسلطة لدينا؟

عقال بعير

عِقال البعير حبلٌّ مصنوعٌ لهذا الغرض اليومي، استعمال وظيفي لقدرتنا البشرية على ترويض الحيوانات الشاردة. وعندما يعمل العقل بمهمة كهذه بالنسبة للجانب الحيواني من الإنسان، يحدث إسقاطٌ لترويض غرائزه وحواسه بالطريقة ذاتها. وهذا دور أخلاقي في غير موضعه. إذْ أشارت الثقافة العربية: أنَّ العقل هو من يحول دون أهواء الإنسان ويُهذِّب رغباته؛ أي يمثل العقل نوعًا من سياسة الكائنات الإنسانية إزاء قدراتها الجسدية والنفسية. إلى هذه الدرجة، جاء العقل كالدَّابة الموثوقةِ بشيءٍ ما، في حين جاء «عقدُ العِقَال» بوصفه دورًا منتظرًا منه في غالب الأحوال. إنَّ العقل هكذا «رابط عام» يُرتأى له ثقافيًا تحديد مشروعية الفكر ومعاني الأشياء والعلاقات بين الناس.

عمليًّا تقول الفكرة السابقة: فليكن العقلُ رابطًا لوجوده حتى يضع الإنسان عقله في رأسه لا في مكان آخر. والرأس هي الحاملة للوعي. هي تباعًا رمز الشموخ والخُيلاء وكذلك العلامة المعترف بها كمحل للإدانة والشجب. حتى إنه عندما يُقْتَص من الشخص القاتل، تُجَزُّ رقبته بالسيف في التراث العربي الإسلامي. وهي العلامة التي تنال منه مثلما نال هو من كيان إنسان آخر.

ثم يوجد رأسُ الأمر أي لبهُ وجوهره، رأسُ الحكمة أي منبع التدبُر والقرار القويم، ورأس الإنسان مركز توجهه وموضع أفعاله. المثل الشعبي يُردد: «اللي عقله في راسه يعرف خلاصه». أي حينما تعقل وتفكر فيما هو حادث حولك، ستُدرك حينها كيف تخرج من الدائرة. دائرة الدوران داخل الفعل ورد الفعل بلا طائل، حيث تكون مقيدًا بما يُملى عليك ثقافيًا لتُردد الأفكار ذاتها جيئةً وذهابًا، ثم لا تتطلع إلى أكثر من ذلك!!

مَنْ قيَّد العقل؟

كلُّ هذا يجري دون التساؤل: مَنْ صنع الحدث محل الخلاص أصلًا؟ مَنْ رسمَ الدائرة للإنسان ابتداءً؟ ولماذا علينا فقط نحن العقلاء تجاوزها؟ ولماذا يأتي الخلاص «خلاصه» الذي يحمل إدانة سلفًا لصاحب العقل؟ كأنه على مَنْ يعقل من الناس أنْ يقع متهمًا قبل أنْ يفعل أي شيء. وينبغي له السقوط في دائرة لم يكن هو الصانع لها. ومن هنا ينبغي له البحث عن خلاصٍ كان في انتظاره. ولكن ما نوع الإدانة التي نقع نحن البشر تحتها ثقافيًا بالمجان؟ أيُّ اتهام ينطلق فجأةً دون جُرم واضحٍ؟! بل هل استعمال العقل جريمة في سياقٍ ثقافيٍّ معين؟ هل حرية العقل تعني الوعي بقيوده أولًا؟! وفي هذه الحالات إنْ صحت: ما نوع العقوبة المفترضة تجاه العقل؟ هل يُعَاقَب من جنس العمل أم أنها ستجري دون أن نشعر؟ لماذا تهجس اللغة العربية بهكذا جريمة وعقاب في حين يغيب الإنسان عنها؟

تريد بعض جوانب الثقافة العربية إمساك العقل عن الحركة كي يسير وفقًا لقواعد وآليات منضبطةٍ اجتماعيًا

بكلمات واضحةٍ: تريد بعض جوانب الثقافة العربية إمساك العقل عن الحركة. وأنه يأتي -في الأخير- كي يسير وفقًا لقواعد وآليات منضبطةٍ اجتماعيًا. وبالطبع لن يستطيع العقلُ التخلص مما يُوضع له. وضمن تلك الزاوية، ظهرت فكرة السلطة التي ترسِّخ كيانها فوق أي عقل أيًا كان. لقد جاءت السلطة إجمالًا مع كل تعريف للعقل بحكم أنها كامنة في منبت اللغة التي نعرّف بها الأشياء. ولكن حدثت ضمن هذا السياق حليةٌ ثقافيةٌ لطيفة فيما يبدو. إذْ بدلًا من القول: إن العقل في مرتبةٍ أدنى وهذا أمر غير مستقيم، أُسندت الثقافة العربية وظيفة الرباط «التربيط/ التشبيك/ التثبيت» إلى العقل نفسه؛ أي حُصِرَت الوظيفة العقلية في تلك العملية كأنها الأساس الذي لا فكاك منه. بدا الأمر كأنه تنازل ظاهري من السلطة بالخارج حتى تكون حاضرة في العقل من الداخل. إنها آلية كل سلطة حين تريد الاختباء في التفاصيل الدقيقة، وأنْ تقول لك إنَّ الأشياء تجري على علتها لا علة أخرى؛ أي اُسْتُدْرِج معنى العقل ليعمل الأخير مندوبًا بالوكالة عن السلطة، سواء أكانت سلطة الاعتقاد أم سلطة المجتمع أم سلطة السياسة... الآلية واحدة والأثر العائد على الإنسان واحد.

هذا مؤدَّاه أن القواعد التي يعمل بها العقل لن يصنعها «هو» لنفسه، لا يمثل مرجعًا لها ولا معيارًا للحكم عليها. والأخطر أنه لن يتمكن من تغييرها شاءَ أم أبى. أليس العقل مجرد رباط عام وفقًا للتعريف؟! وبذلك عليه أنْ يربط ما وصل إليه من أفكارٍ على هيئة عقائد. إنَّ ربط الأفكار يعني صناعةَ عقدةٍ صلدة حولها. لقد تبلورت حقيقة المعتقدات لدينا نحن البشر من هذا الباب. فهي أفكار بلغت درجة اليقين نتيجة العقدة المربوطة والمغلظة بها. ولذلك سُمِّيت المعتقدات بهذا الاسم، نتيجة وجود الأشياء المعقود عليها بواسطة المشاعر والتصورات والأحاسيس والأخيلة. كلُّ هذا يعبر عن قدرة العقل العاكسة إزاء ما لدينا من قناعاتٍ سابقةٍ. وكأنَّ العقل يؤدي دور «الحفظ والتوثيق والترديد والتدبيج» في صحائف الثقافة السائدة. وهذا أحد وجوه الأزمة التي أصابت العقلانية في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية.

العقل والسلطة

في هذا الإطار، جرى الإفصاحُ عن أسرار التعريف السابق إزاء العقل كالتالي:

1- يأتي العقل مُتأخرًا عن محتوى الفكر والمعرفة والحقائق. وهذا هو جانب العادات والتقاليد التي تموضع ذاتها كسلطة عميقة إزاء الفكر.

2- العقل هو الختم البرّاق الذي يُمرر الأشياء المُعطاة له. فقط يضع عليها بصمته من الخارج. وكأن الرقابة على كل وضع يواصل وجوده ثقافيًا لا أثر لها. والقول الضمني واضح ومؤداه: على العقل أنْ يدرك الأشياء ويميز بينها، ولكنه عاجز عن التغيير والتطوير.

3- توجد سلطة ما فوق قدرة على العقل على تحديد الأشياء وخارج إمكانية التأثير فيها. والمقصود أن العقل كلما يبدو خارج الدائرة عليه العودة إليها ثانية. وأنَّ السلطة تأتيه مباشرةً من كثب. فأهم ما تمَّ هو استحضار السلطة لذاتها مع حركة العقل. ولذلك الخوف والرقيب يسكن العقل بهذا المعنى.

4- طالما ربط العقل الأفكار بصورة سلبية، فلا يتساءل عنها ولا يكشف جوانبها. ثمة خط مفهوم ضمنًا أن العقل يتلقى دون أن يصدر شيئًا، لا يتساءل ولا يقفز على الطوق.

5- سيظل دور العقل مهمشًا، لأنه يحضر شاهدًا بالإنابة ليس أبعد. ومن ثم لا يتم النظر إلى العقل باعتباره مستقلًا ولكنه تحت الوصاية. فالناس يُوضعون تحت الوصاية بهذا المنطق. الابن تحت وصاية الأب، العامل تحت وصاية مرؤوسيه، الزوجة تحت وصاية زوجها، المجتمع تحت وصاية طبقاته المهيمنة.

سيظل دور العقل مهمشًا، لأنه ليس مستقلًا ولكنه تحت الوصاية

6- الغريب أن العقل سيتحمل مسؤولية أشياءٍ لم يفعلها. وهي مسؤولية عامة دون مسؤول من جنسها، إذ تبدو المسئولية الفكرية فارغة من مضمونها.

7- يُقَاص من العقل بفعل فاعل مجهول الهوية. لأن العقل يحضر ليربط الأشياء المقدمة له. لذا فإنّ عدَّه وسيلةً مكملةً شأن يقلل منه ويعده محط عقوبة واجبة النفاذ.

8- إنَّ لتأخُر العقل تاريخًا، وإنَّ لترسيخ وظيفته الثانوية تراثًا ممتدًا في بعض جوانب الثقافة العربية. الغاية من هذا التاريخ هي إقناع العقل بكونه موضوعًا في مكانه، وأنَّ ميراثًا غير قابل للتفاوض يحيط بهذا الأمر، فليكن استعماله كما كان.

مفارقة التحرر

ولكن ليس الأمر كله سلبيًا كما قد يفهم القارئ الطرح السابق. لأن «الإنسان العاقل/ المتعقل» هو من يحمل مفارقة رفض هذا الرباط غير المقدس. العاقل هو مَنْ يشب على الطوق محطمًا القيود التي تعوق الحياة الحرة. فالعقل يتمرد تجاه تلك الدوائر المحرمة. إن تاريخ العقل يكشف قدرته المدهشة على كسر الحواجز لا الاستكانة لها. وإذا كان السياج السابق «عقال البعير» عالقًا ببعض الرواسب الثقافية، فالعقل يبني ذاته في خفاءٍ، ينضو عن ذاته كل عوالق بيئية. كم من مفكرين في التراث العربي أمثال: عمرو بن بحر الجاحظ، أبي حيان التوحيدي، أبي منصور الحلاج، ابن عربي، ابن رشد قد دفعوا العقل للتحليق بعيدًا. التحليق في آفاق جديدة من التجارب المعرفية والروحية التي تساءل سلطة الفكر الغالب.

الجانب الآخر من المسألة هو الحث على استحضار العقل في كل شيء، لأنه ليس متصورًا تفريغ رأس الإنسان من عقله. إنَّ رأسًا بلا عقل لهي رأس بلا كرامة، رأس بلا حقيقة، رأس بلا معنى. والفكرة الطريفة أن الإنسان عليه أنْ يتحسس عقله مثلما يتحسس مسدسه عند المخاطر. في هذا الحال، يستطيع التصرف ويحل المعضلات بحنكة فائقة القدرة. إن الأنظمة الاجتماعية أحيانًا هي تراكم من المعضلات صغرت أم كبرت، ويسير الأفراد خلالها كأنهم يسيرون في حقول ألغام. والتخلي عن الفهم والتساؤل والاستيعاب الفكري أمور لا تُحمد عقباها.

ورد في بعض الشعر النبطي:

«... مالي على عقل المخاليق سلطان
كلّ في راسه عقل يعرف خلاصه
درع المبادئ يفرق انسان وانسان
واللي نزع درعه تجيه رصاصه...»

لم يعد العقلُّ إكسسوارًا كما يُقال عن عقل المرأة المُعطل عن التأثير في البيئات الشرقية. العقل فعالية حرة قادرة على النقد والتجديد بكافة المجالات، بل هو سبب النجاح الوظيفي والعملي والاقتصادي والسياسي إلى آخر تلك الفضاءات، والثقافة العربية في هذا قد خضعت لظروف تاريخية عطلت العقل عن إطلاق طاقاته غير التقليدية.

لا يعني ذلك أنَّ الوضع الآنف الذي يُقلل من شأن العقل قرارٌ نافذ الحكم. لعلَّ الثقافة العربية، حين رفضت وظيفة معينة للعقل مثل النقد أو التساؤل بحكم العادات والتقاليد، لم تنفِ قدرته على التحرر. العقل طوق النجاة وشراع التقدم الذي تنتظره مجتمعاتنا العربية. العقل ليس جرابًا مثل «جراب الحاوي»، لكنه ضرب من القدرات القابلة للصقل والتدريب والتوسع والدينامية والذكاء لإنجاز الأعمال. إنه إبداع لم يكن مُتاحًا من أول وهلة، إبداع يمارس دوره الفعال دون توقف. دومًا ستكون مفاجأة بانتظار العقل الحيوي بهذا المعنى، لأنه يوجد بالزخم نفسه في أي مجال آخر، ثم إنه يستثمر الفُرص تلو الفرص لقطع أشواط من الحركة والممارسة. إن إحياء دور العقل نقديًا هو البعد المنتظر لرسم خريطة المستقبل.

من الأهمية معرفة أنَّ عقلًا في الرأس بكل ثباتٍ هو دعوة إلى التفكير الحر، دعوة إلى التحليق بعيدًا عن الأطر الصارمة. ورغم كونها حالة بدهية: أن نُدرك وجود العقل في المنطقة العليا من جسمنا، لكنها حالة معقدة إزاء قيود بعض المجتمعات. أحيانًا تكون البديهيات أكثر صعوبةً من أشياء تحتاج إلى مجهود لإثباتها. والخلاص يمكن تأويله عكس ما قد سبق من ضعف مسؤولية الفكر. الخلاص هو قدرتنا على بناء التاريخ باستعمال العقل. الحضارة عقل، التكنولوجيا عقل، المدنية عقل، الديمقراطية عقل، الذوات عقول متحركة، المجتمع عقل. الخلاص هو تأويل العقل لمصلحة الإنسانية وارتياد آفاقها الرحبة.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقال مميز
تحياتي
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

بالغ تقديري وامتناني لكم استاذ نزار
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.