عقل الإنسان ما إلا بحر من الخيوط الرفيعة، تتمثل في موجة من الأفكار المتشعبة التي ترقص مع بعضها بعضًا في تناغم دائم. ولا يوجد ما يسمى "شخصية" متأصلة، أي مجموعة من الصفات التي تتصف بها مجموعة معينة تُسمى بشخصية، ويفترض أن لها صفات محددة وتصرفات محددة لا تتغير إلا بتغيير نفسك وشخصيتك.
في الواقع، لا وجود لتلك الشخصية المتأصلة بداخلك، غير القابلة للتغيير، بل هي حبال ترقص، الأقرب فيها منه لبعضه، ويصبح الأكثر تناغمًا وتلاصقًا وارتباطًا يتمثل على شكل شخصيتك.
هذه الشخصية موصوفة، لها نمط يحددها ويوصفها، كالشخص الخجول غير الواثق، والشخص الذي يتصف بخفة الظل، والشخص الملتزم، وآخر كسول.
ثم نذهب إلى المجموعات والتصنيفات بمختلف أنواعها، كـ 16 personalities وغيرها من التصنيفات التي تصنف البشر إلى أنواع من الشخصيات، كاللوجيستي والمهندس والمهرج، وغيرها من التصنيفات، ولكن في الواقع، عدد الخيوط المتبقية تلك أكثر بكثير مما نتوقع.
ألا يدور في بالك بحر من الأفكار المتضادة والمختلفة يوميًّا؟ ثم تتخذ قرارات بناءً على هذا التسونامي من الأفكار؟
يرى الناس قراراتك في صورة أفعالك، ومن ثم اختياراتك، ثم تصبح اختياراتك عادات متكررة، ثم يتولى تنفيذها على نحو مبرمج وتلقائي عقلك اللاواعي، ثم تصبح أنت هذه الصفات، وتصبح أنت أنت...
الرقصة الخفية والعقل اللاواعي
في الواقع، يوجد في الوقت نفسه مجموعة أخرى من الخيوط القريبة من بعضها بعضًا، ومترابطة بوضوح، ولكنها لا تستطيع الرقص على أنغام عقلك الفوق اللاواعي الموصوف بالمايسترو.
كل هذه العقد والخيوط المتقاربة بمختلف أماكنها داخل محيط عقلك ومدى تناغمها، هذه الربطة من الحبال وتلك يمكن فكها تكوين غيرها، أو حتى تقليل التناغم في مكان، وتعزيزه في مكان آخر.
هكذا تتغير "الشخصيات"، ولكن السؤال المثير هنا: متى، ولماذا، وكيف تكونت هذه الخيوط المتعاقِدة والمتناغمة التي نُعرِّف بها أنفسنا (شخصيتنا)، وتلك الخيوط المتقاربة التي لا ترقص؟
وخيوط أخرى تسبح، لا تجد في رحلتها الدائرية اللانهائية سبيلًا لا لترابط ولا تناغم...
من نحن؟
ومتى كنا؟
وكيف تكوَّنا؟
وإلى أين نحن ذاهبون؟...
الشك والاضطراب الداخلي
يجد الإنسان نفسه أحيانًا مشككًا في كل أنماط تفكيره، فيجعله ذلك مترددًا في اختيار الشعور الذي عليه تصديقه وتبنيه.
هل أنا شخص مُجامل ولطيف؟ أم في الواقع أنا سخيف وقليل التعبير؟ هل نمتلك الهالة والحضور؟ أم تخذلنا لغة جسدنا؟!
حيرة ينتج عنها محاولات بعض الحبال بالترابط، أو بعض العقد والمجموعات بالتناغم، ويجب على المايسترو، الموصوف بالعقل الفوق اللاواعي، أن يحافظ على اتزان الإيقاع، وتناغم وتناسق رقصات بحر الأفكار برمته على اللحن المختار من قبل المايسترو.
يمكنك في البداية خلط المايسترو بعقلك الواعي، لكنه ليس هو تحديدًا، بل هو الطيار الآلي الخاص بالعقل الواعي، أي العقل اللاواعي للعقل الواعي.
وكأن عقلك يتكون من ثلاث طبقات: الواعي - الواعي اللاواعي - اللاواعي.
الواعي هو النتيجة.
الواعي اللاواعي هو نظام تشغيل هذه النتيجة، والمُمنهج على تلقين الواعي من الخفاء.
العقل اللاواعي هو المصنع.
ولكن يبقى السؤال: ما ذلك المصنع؟ كيف كان؟ ومتى تكوَّن؟ من نحن؟ ومتى كنا؟ وكيف تكونّا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟
اللحن المتغير
أيضًا، يجب ألا ننسى أن هذا اللحن المعزوف والمختار من قبل المايسترو الذي يمثل بإيقاعه "الشخصية" المتكونة من مختلف الحبال والعقد والتناغمات في الأماكن المختلفة داخل بحر عقلك اللانهائي.
هذا اللحن يمكن أن يضطرب، وينشز، ويصبح مشتتًا وغير طيب على الأذان، لحدوث تغييرات في حبالك السابحة في محيط العقل، منها ما يتقطع، ومنها ما يقترب، ومنها ما يندمج أكثر في الرقصة، في حين حبال أخرى تفتر وتهدأ.
فيتغير اللحن..
أو يضطرب
أو يزداد حلاوة
أو مرارة
أو ينشز
أو يصبح صارخًا مدويًا
هادئًا حزينًا
أو غامضًا مظلمًا وحيدًا...
هذا هو مسبب الاضطرابات، مسبب التغيرات، مسبب العبقرية والتألق، وفي أحيان أخرى، الانهزام أو حتى الجنون.
التخليق المؤلم
هذه الجزئية يمكن وصفها كأنها حالة محددة، قد تكون مؤقتة وقد تستمر، تنتج عن الضغوطات والخبرات والتجارب، ويمكن تسميتها بحالة التخليق المؤلم، وقد ينتج عنها كثير وكثير من الاحتمالات، منها ما قد ينفع والآخر يضر.
هذه الحالة التي قد تُعد مفصلية، وقد تكون مستدامة، فيتم توصيفها بطريقة روتينية أو شرحها على أنها شخصيتك.
تختلف نتائجها بناءً على ما يحدث في رحلة عودة المدخلات الخارجية الحياتية، عائدةً إلى عقلك اللاواعي مرورًا بالواعي والواعي اللاواعي (المايسترو)، الذي أُنْشِئَت أنماطه مسبقًا من قبل العقل اللاواعي.
ويختار هو في ذات الوقت اللحن المناسب لعقلك، لتُخلق حلقة لا تنتهي، قد يخلق فيها عقلك اللاواعي حبالًا جديدة، أو يعقد ويربط حبالًا أخرى مختلفة، يقلل توازن وتناغم بعض العقد والربطات، ويزيد تناغم أخريات.
هذه العمليات قد تحدث بطريقة ضارة لذلك اللحن المسؤول عنه المايسترو، فقد يضطرب، وتطرب النغمات، ويبرمج حينها عقلك الواعي اللاواعي أنماطًا وأفكارًا جلية جديدة، أو معززة، أو متغيرة، أو متطورة، أو مثبطة.
وتتمثل في صورة عقل لا واعٍ للعقل الواعي قد عُدِّل، وتتمثل في لحن كامل جديد أو معدل، ثم ينتج في تلك الحالة التغيير، أو قد يعلق عقلك في حالة التخليق المؤلم، وقد يعلق عقلك في هذه الحرب، جالسًا بجواره هذا العدو اللابد.
قوة التغيير
ما سُرِد لا ينفي وجود الشخصيات، ولكنه ينفي تعنتها وصلابتها، وكونها تصف وحدها الشخص على نحو محدد ومجموعة معينة من الصفات، ولكن في الواقع كل شخص قادر على خلق حبال وعقد جديدة، قادرة على تغيير لحن عقله تمامًا، إلى شخصية جديدة.
ولكن مجددًا ومجددًا! كيف ومتى ولماذا تكونت هذه الحبال بهذا الشكل منذ البداية؟ وما هو حقًّا العقل الواعي؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟
احسنت النشر
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.