«العطر: قصة قاتل».. عن الرواية المميزة والفيلم الاستثنائي

تُعد رواية "العطر: قصة قاتل" للكاتب الألماني باتريك زوسكيند واحدةً من أكثر الروايات الأدبية تميزًا في القرن العشرين، إذ تمزج بين الأدب النفسي والتاريخي والفلسفي في قالب سردي مثير، وقد نُشرت الرواية أول مرة عام 1985 وحققت نجاحًا عالميًّا، كما جرى تحويلها إلى فيلم سينمائي عام 2006م يحمل ذات عنوان الرواية (Perfume: The Story of a Murderer) من إخراج توم تيكوير، ومن بطولة بن ويشا الذي قدم أداءً استثنائيًّا في دور غرنوي؛ لأنه نقل البرود العاطفي للشخصية بمهارة، مع تعبيرات جسدية وملامح وجه دقيقة تظهر انفصاله عن العالم.

فيلم Perfume: The Story of a Murderer

الفيلم من بطولة الممثل العالمي داستن هوفمان في دور المعلم بالديني، الذي أضفى لمسة درامية مميزة، على الرغْم من أنه لم يكن الشخصية الأكثر تأثيرًا في القصة، وآلان ريكمان الذي أدى دور الأب ريشي بإقناع، إذ أضاف وزنًا دراميًا للقصة، لا سيما في الصراع الأخير، ورايتشل هيرد-وود في دور لورا، الفتاة التي تصبح محور هوس غرنوي، التي كانت العنصر الفريد والأخير في صناعة "العطر المثالي" الذي أراده وبحث عنه مدة طويلة من حياته.

فيلم Perfume: The Story of a Murderer عن الرواية التي تحمل الاسم نفسه إنتاج 2006

عن الفيلم أولًا، وحسب النقاد المختصين في مجال السينما، فإن الفيلم حقق نجاحًا لافتًا على المستوى العالمي لا يقل عن مستوى الرواية التي حرص كاتب السيناريو، وهو الكاتب زوسكيند نفسه، على أن يظل وفيًّا لها، بحيث نقلها كما هي تقريبًا إلى الشاشة بإيقاع استطاع جذب المشاهد إليه وإبقائه في أجواء الرواية، لكنه واجه صعوبة في نقل السرد الداخلي المعتمد على الروائح إلى صورة مرئية، كما لجأ السيناريو إلى بعض التعديلات السينمائية، مثل تسريع بعض الأحداث التي كانت ضرورية، لكنها أدبيًا أضعفت العمق الفلسفي للرواية.

ومن ناحية الإخراج، يقول النقاد إن توم تيكوير نجح في خلق أجواء بصرية غامرة، إذ استخدم الإضاءة والألوان لنقل الإحساس بالروائح بطريقة غير مباشرة، فكانت المشاهد التي تصور العطور والروائح مميزة من ناحية التصميم والتكوين البصري، ومع ذلك، فإن الفيلم عانى من بعض البطء في المنتصف. أما بالنسبة للمشهد الأخير الذي صوَّر مصير غرنوي، فقد كان صادمًا وترك انطباعًا قويًّا، على الرغم من الاختلاف الطفيف عن الرواية.

هل أحداث الرواية حقيقية؟

ما من دليل قاطع على أن الرواية كانت عن شخصية وأحداث حقيقية سوى ما يقوله الكاتب من أن الأحداث كانت في فرنسا الغارقة في قذارتها خلال القرن الثامن عشر، وهو العصر الذي يصفه منذ البداية بالعصر الذي تميَّز عن غيره بأكثر الكائنات نبوغًا وشناعة، مثل دو موساد، عرَّاب أدب الخلاعة المعروف باسمه (السادية)، وسان جوست، وفوشيه، ونابليون بونابرت، القائد العسكري الشهير. فهؤلاء، كان من بينهم بطل هذه الرواية جان باتيست غرونوي، وهو "ابن الحرام" الذي لم يختر له والداه اسمه، لكنه كان يمتلك حاسة شم خارقة جعلته، مع ظروف وأحداث حياته، فيما بعد، يبحث عن صناعة "العطر المثالي"، مهما كلفه الأمر.

عن الرواية

تبدأ الرواية بولادة غرنوي في بيئة قاسية وظروف معيشية صعبة، إذ يُترك وحيدًا لقيطًا، وينشأ في دار للأيتام يفتقر إلى أقل ما يمكن من المعايير والضوابط والمبادئ الإنسانية، لولا أنه منذ صغره يظهر تميزًا بحاسة شم فريدة، تجعله قادرًا على التعرف على جميع الروائح بدقة متناهية. لاحقًا، يتدرب في ورشة لصناعة العطور، ويبدأ في تجربة روائح جديدة، حتى يدرك أن العطور العادية لم تعد تشبعه، وأنه بحاجة إلى روائح بشرية لخلق العطر المثالي.

غرنوي شخصية معقدة ومتعددة الأبعاد؛ فهو ليس مجرد قاتل مهووس، بل شخص منعزل عن العالم، يسعى إلى تحقيق ذاته بوسيلة غير اعتيادية. يفتقد المشاعر الإنسانية الطبيعية، لكنه في الوقت نفسه يمتلك إحساسًا حادًا بالجمال والرائحة، ما يجعله شخصية مأساوية بقدر ما هي مرعبة.

تتميز الرواية بأسلوب الكاتب الألماني باتريك زوسكيند وهو السرد الوصفي الدقيق

الرواية مميزة بأسلوب زوسكيند، وهو السرد الوصفي الدقيق الذي يعتمد على نقل المشاهد عن طريق حاسة الشم بدلاً من الرؤية أو السمع. وهذه التقنية تجعل القارئ يغوص في عالم الرواية الحسي، ويشعر وكأنه يشم الروائح التي يصفها الكاتب، ثم إن اللغة المستخدمة تحمل بعدًا فلسفيًّا، إذ تتناول الرواية قضايا مثل الهوية، والانتماء، والتجريد من الإنسانية في سعي المرء وراء الكمال.

رمزية عميقة تحملها الرواية، وتكمن فيها المفارقة الممتعة، إذ يمكن اعتبار غرنوي تجسيدًا للفنان العبقري المنعزل، الذي يضحِّي بكل شيء من أجل إبداعه، مع أنه لا مبرر للقتل الوحشي الذي لجأ إليه في صناعة العطر الذي أراده، ثم إن افتقاده لرائحة شخصية -وهو جوهر المفارقة الممتعة التي نتحدث عنها في الرواية- يشير إلى افتقاده للهوية الإنسانية، ما يطرح تساؤلات عن دور الروائح في تشكيل علاقتنا بالعالم.

إذن، وعن طريق تصوير المجتمع الفرنسي القاسي والمتعصب، ينتقد زوسكيند العصر الذي تدور فيه الأحداث، إذ تتجلى الطبقية والفساد الأخلاقي، ليصنع رواية استثنائية تدمج بين السرد المشوِّق والبعد الفلسفي العميق. وهي رحلة عبر عوالم الحواس والهوية، تكشف عن الجانب المظلم من عبقرية الإنسان، وتدفع القارئ إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الروائح والمشاعر. وعلى الرغم من أن بطلها قاتل، فإن القارئ قد يجد نفسه متعاطفًا معه أحيانًا، ما يظهر براعة زوسكيند في خلق شخصية غير تقليدية، تظل محفورة في الأذهان بعد انتهاء الرواية.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

المفاجأة كانت في كتابتك زهور وحياة ورقي وسردك للقصه يوصل للقارئ بسلاسة تمتلك المزيد من التميز ربنا يوفقك
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مجرد حضورك هو المفاجأة الأجمل سيدتي.
دمتي بألف ود 🥀🙏🏻
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة