العدمية لنولان جيرتس: لماذا يهم ألّا شيء يهم

"أنا أعتز بالعدمية". في سنة 1881 ألقى ويندل فيليبس خطابًا في جامعة هارفارد. كان خطابًا مفعمًا بالعاطفة، ومن ضمن ما ورد فيه أنه يعتز بالعدمية لأنها تُكفِّر عن الطبيعة البشرية تهمة أنها بغيضة، مكونة فقط من مضطهدين قساة مجردين من الإنسانية وعبيد راضين. وأن العدمية هي آخر وسيلة للمقاومة لأشخاص مسحوقين تحت قبضة حديدية دون أي وسيلة أخرى للمقاومة.

اقرأ أيضًا: في ذكرى رحيله.. الشاعر خالد نصرة صوت فلسطين ووجع الأمة العربية

وقد وقع كلامه على المستمعين وكأنه يروِّج لشيء شرير أو خبيث، ولا غرابة في ذلك، فهو وقع على آذاننا الوقع ذاته. ولن يُوضِّح الأمر أن نعرف أنه يتحدث عن الحركة الروسية التي سمَّت نفسها بالعدمية وسعت للتغلب على العدمية في المجتمع بهدم المجتمع بِرُمَّته.

بالقرب من ذلك الوقت، قال نيتشه مقولته الشهيرة: "ما لا يقتلني يجعلني أقوى". سعت تلك الحركة لهدم كل قيم المجتمع مثل الزواج وامتلاك الأراضي، وكان هدفها أن ما ينجو من ذلك الهدم هو ما يستحق الاحتفاظ به.

اشتهر ويندل فيليبس بعد خطابه ذلك، وسُمِّيت جوائز باسمه، وكُتب على قبره أنه بطل للعبيد. يقول الكاتب إن العدمية التي كان يدافع عنها فيليبس والعدمية التي نعرفها ليسا الشيء نفسه، لكنهما ليسا مختلفين تمامًا أيضًا.

حين نقول إن شخصًا ما عدمي، فإننا لا نعني أنه يحاول قتل شخص مهم في الدولة كما فعلت تلك الحركة في روسيا التي لجأت للاغتيالات، وإنما نعني أن الشخص لديه قيم هدامة معادية للمجتمع.

إن العدمية -كما يقول جيرتس- هي شيء نظن جميعنا أننا نعرف معناه، ذلك حتى يطلب منا شخص ما أن نعرِّفه. فالعدمية هي العدم، أي لا شيء، و"ـية" تعني أيديولوجية. لكن حين نمزج الكلمتين معًا، فإنها تخلو من المنطق؛ فلا معنى لـ"أيديولوجية اللاشيء".

وإذا ما قلنا إن شخصًا ما عدمي، أي أنه يؤمن بلا شيء، فذلك أيضًا يخلو من المنطق؛ حيث إنه لتؤمن بشيء يجب أن يكون ذلك الشيء موجودًا. لا معنى لقولك إن شخصًا ما يؤمن بلا شيء.

يقول الكاتب إن هناك المعتزين بآرائهم، وهم الأشخاص المؤمنون بشيء معين وعادة دون أدلة كافية، وكيف أن تلك الفئة من الأشخاص ينظرون لمن لا يؤمنون بالأشياء نفسها أو لا يسلكون سبيلهم في الحياة على أنهم عدميون.

كمثل النباتيين الذين يتهمون آكلي الحيوانات بالعدمية لأنهم لا يهتمون بالحيوانات، ويتهم آكلو اللحوم النباتيين بالعدمية لأنهم لا يهتمون بالمزارعين. وكيف يتهم المدافعون عن البيئة الآخرين بالعدمية، وأمثلة أخرى كثيرة.

يقول الكاتب إن المعتز برأيه مثل من يقف في مول للتسوق ويخطب في الناس عن سخافة التسوق في مول. في البداية، سوف يتوقف البعض ليشاهدوه بفضول قبل أن يفقدوا الاهتمام ويعودوا إلى تسوقهم.

سيكتشف ذلك الشخص أن المواجهة لا تنجح، لذا فسوف يلجأ إلى التلفاز ومنصات التواصل الاجتماعي. ويقول الكاتب إن في عصرنا الحاضر صار أن يكون المرء معتزًا برأيه يُرى على أنه مستحق لمنصب، وأن التساؤل عن الوضع الحالي صار هو الوضع الحالي. وأن العدمية تحولت إلى مَكِنَة صنع أموال، حيث هناك كل تلك الأفلام والمسلسلات التلفزيونية عن العدمية مثل "ترو ديكتيف" و"ساينفيلد".

يذكر جزءًا من خطاب جيري ساينفيلد في حلقة ما بعد البرنامج، يقول: "السؤال هو ما الذي أفعله؟ الكثير من الناس يسألونني قائلين: إنك لم تعد تصنع المسلسل، فما الذي تفعله؟ الإجابة هي: لا شيء. فعل لا شيء هو أصعب مما يبدو عليه، فإن تقوم بفعل أي شيء ربما يتداخل ذلك في فعلك للاشيء، وفي وقت قصير يتحول اللاشيء إلى شيء".

يقول الكاتب إننا لو كنا كلما يسألنا أحد: ما الذي نفعله هذه الأيام؟ نجيب: بلا شيء. ولا شيء بالطبع نعني بها أننا لا نفعل أي شيء يستحق الذكر.

فبالطبع كلنا يعرف أننا لا نعني اللاشيء بالمعنى الحرفي، ففعل ذلك سيكون شبه مستحيل. وإذا كنا نمضي قدمًا في حياتنا لا نفعل أي شيء يستحق الذكر، ونؤمن بأن للحياة معنى، فربما نحن أقرب للعدمية مما نظن، على الرغم من اعتقادنا بأن العدمية ليست أمرًا بريئًا كذلك؛ فالعدمية كما نعتقد هي شيء مظلم وسوداوي.

يبدأ الكاتب بعد ذلك في التحدث عن تاريخ العدمية، بادئًا بديكارت وهيجل وكانط. يقول إنه لا يمكن التحدث عن العدمية دون أن نرفض المعنى على أنه أمر مسلم به.

ذلك كان الفصل الأول من الكتاب، ألا وهو المقدمة.

اقرأ أيضًا: في ذكرى رحيله.. عمر أبو ريشة شاعر حلق بالشعر فوق صخور الأيدولوجيا

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة