بسم الله الرحمن الرحيم
صحيح أن مجرد تخيل الحياة بلا كتابة- أي كتابة- كانت هي صعبة نوعًا ما، أو قل مستحيلة، ولكن حتى هذه الظاهرة الحضارية الأولى والأهم في حياة الإنسان على كرة الأرض قد تعتريها المشاكل والتحديات الصعبة التي تخرجها من حيز الأهمية إلى العجز التام.
قبل أن أوضح هذا يجب عليّ إيراد أمثلة في قالب أسئلة:
هل يمكن لأديب أو لغوي أو عارف بلهجات العرب مثلًا أن يصف لنا (بالكتابة) الطريقة التي يلهج بها المصريون أواخر حروف كلماتهم؟
أو الكويتيون والخليجيون بصورة عامة؟
هل تعرفون رنة صوت لهجتهم أثناء التكلم؟
اقرأ أيضًا: أخطاء اللغة العربية على السوشيال ميديا .. مسؤولية من؟
تلك التي لا يملكها العراقي ولا السعودي ولا غيره مثلًا، حتى صار الفرق واضحًا من خلال اللهجات والفرق بينهما حتى على مستوى مصر، فالمداوم على مشاهدة الأفلام المصرية أن يميز بين لهجة الصعايدة وغيرهم من المصريين.
ولست أعني طبعًا طريقة نطق الجيم والقاف، بل الرنة التي تصدر منهم في كل جملة ينطقونها، ومع أن هذه التي أتكلم عنها يمكن تقليدها وبسهولة تامة، ولكن التعبير عنها بالكلمات قد يكون صعبًا أو غير ممكن أساسًا.
وأما الفرق بين لهجة اللبنانيين وبين بقية أقرانهم من بلاد الشام -في نطق الألف خصوصًا- فتلك يعرفها علماء التجويد والقراءة العربية.
فهذه ظاهرة إمالة الألف وموجودة في القرآن في آية واحدة، إذا كان بمقدوركم الاستماع إلى قوله تعالى كيف يتلوها القراء: بسم الله مجريها ومرساها، هكذا فقط يمكننا كتابة هذه الكلمة أعني مجريها هنا بالخصوص؛ لأن الذي يقرره أهل التجويد والقراءة القرآنية هي إمالة هذه الألف كما أحلتكم إلى استماع القراءات المسجلة كيف تكون.
اقرأ أيضًا: هل يوجد فرق بين اضطراب النطق واضطراب اللغة؟
ونرى في أغلب الخطوط القرآنية علامة فوق هذه الياء تبيّن الإمالة في قراءة حفص الكوفيّ على الأقل.
وأما إذا سألتني كيف أمكن تسجيل العرب لشعرهم ومعلقاتهم في العصر العباسي بعدما كانت شفوية، وهل أهمل منها شيئًا كما قررنا لأنه استعصى على ناسخها تسجيل طريقة نطقها ورأى أن عرب الشمال أو الشرق مثلًا لن يعرفوا نطقها فلم التسجيل أساسًا؟
والإجابة على هذه الشبهة سهلة لمن قرأ في تاريخ العرب فيما قبل الإسلام، فسيقف بكل تأكيد على هذه المعلومة وهي (أن العرب مذ يومها عرفت الكتابة بأشكالها وألوانها المختلفة إلى جانب علمها بالشعر وطرق البيان المختلفة كالخطابة وإبداعهم فيها، فالشعر العربي ولد والكتابة موجودة حقًا فقد دونت وتناقلها قومها، لا ما يشيع أنها كانت في العصر العباسي بل كانت لأبعد من ذلك قبل).
والعرب الذين عاشوا في الزمن القريب من القرنين قبل الإسلام وهو المسمى بالجاهلية دون تاريخهم الممتد لثلاثة آلاف عام منذ جدهم إسماعيل بن إبراهيم -عليه السلام- لم يكتبوا على الجدران في المعابد والزقورات والمقابر ولا على الصخور ولا الألواح الطينية التي تجفف كغيرهم من الأمم بل كأمم أخرى كالصين، بل استعملوا الورق وإلى جانبه الجلود التي مصدرها كان حيوانيًا ونباتيًا مما كانوا يصنعونه.
اقرأ أيضًا: اللغة العربية واقع وتحديات وآفاق
وهذه معلومة أخرى مهمة وهذه هي مصادر العرب الكتابية الأولى، ولكن الظاهر أن كل هذه الخطب والرسائل والأشعار قد عفا عنها الدهرُ، ونسخ القرآن الكريم الأولى هي الباقية كأول نسخ عربية نراها تاريخيًا.
والغرض من هذا كله التنبيه على أن الكثير من الظواهر اللسانية واللغوية هي تكون شفهية بالخصوص لا كتابية، فبدون استماعها لا يمكنك التعرف عليها.
وتصور إذا جئنا بعد تقريبًا مئة عام أخرى وقرأ أحدهم المقال وقد تغيرت لهجة عرب الكويت ومصر فهل سيعرف مقصودي؟
طبعًا لا، إلّا إذا شاهد مسلسلًا أو فيلمًا نطق بهذه اللهجات، ونحن في القرن الحادي والعشرين واللغة ما تزال تتطور واللهجات معها.
اقرأ أيضًا
-أهمية اللغة العربية وفوائدها لغير الناطقين بها
-اللغة العربية والوعي الإنساني | كنوز لغة الضاد
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.