"التعليم في الصغر كالنقش على الحجر"، يحمل هذا التعبير وهمًا معرفيًّا ضخمًا، يجعلنا نتصرف وكأن التعليم مجرد عملية صب معلومات في جرة فارغة، هي الطفل أو المتعلم الذي نتوجه له بالرعاية،
والحقيقة أن عملية التعلم تتضمن جوانب ثلاثة: معرفية، ومهارية، ووجدانية، والجوانب الثلاثة تتكامل في تكوين شخصية المتعلم، من نعومة أظفاره، حتى نفهم المسألة علينا أن نحدد المقصود بالمتعلم.
اقرأ أيضًا أثر التعليم الإلكتروني وطرق التعليم الحديث
التعليم في الصغر
إن الإنسان يبدأ في عملية التعلم من نعومة أظفاره، وقبل أن يدرك أنه يتعلم، إذ يلتقط من محيطه الاجتماعي الحروف الأولى والكلمات الأولى ليكوِّن منها الجمل التي يتواصل بها مع المحيطين به، هذا إلى جانب ما يكتسبه من مهارات، تبدأ بالمهارة المنظورة والضرورية في حياته، أي تناول الطعام، وهو في أثناء عمليات التعلم المتنوعة تلك يكتسب الإحساس بكل مهارة،
على النحو الذي يشكل وجدانه، فيعرف -مثالًاـ أن النار تحرق وتسبب ألمًا، والماء البارد يجعله يشعر بالانتعاش، كما يكتسب في الوقت نفسه المعلومات الضرورية عن محيطه، فيتعرَّف على حجراته بيته، باعتبارها تجسِّد مفهوم المكان، ثم يتعرَّف على الشارع، باعتباره يجسِّد مفهوم المجتمع، وهكذا، فإن كل عملية يمر بها الطفل يكتسب معها الجوانب الثلاثة في عملية التعلم، المعرفي، والمهاري، والوجداني.
وبذلك، يجب أن ننتبه إلى أن اعتقادنا أن الطفل يأتي إلى المدرسة وهو خالي الذهن من كل معرفة، هو في الحقيقة من قبيل الأوهام الضخمة، وكذلك الأمر حين نظن أن كل المطلوب هو صب مجموعة من المعلومات أو المفاهيم في نفس هذا الطفل لتمتلئ نفسه بالعلم المطلوب ويتحول من جاهل إلى متعلم.
والحقيقة أن عملية التعلم تتضمن في طبيعتها تفاعل المستقبِل -الطفل- مع ما يتلقاه من معلومات، ومع ما يلاحظه من سلوك المعلم سلوك زملائه في المدرسة، فإذا ما استقبل هذا الطفل معلومة ما، فإنه يتفاعل معها ويعيد تكوينها في ضوء معارفه السابقة التي اكتسبها في محيطه الاجتماعي الأول، أي المدرسة،
وهذا يعني أن نتائج هذا التفاعل لن تكون واحدة بين كل الأطفال، فمن تعوَّد النظام في بيته فسوف يستجيب لمفاهيم النظافة والانتظام والالتزام بالواجبات، ونحو ذلك من المفاهيم المشابهة، أما من اعتاد في بيته الفوضى (الطفل المدلل مثالًا) فسوف يجد صعوبة في قبول مفاهيم النظام والنظافة وتحمُّل المسؤولية، لأنه باختصار اعتاد في بيته وجود من يؤدي المهام المطلوبة منه عنه، وبذلك، فإن تصورنا أن استجابة الأطفال سوف تكون واحدة هو وهم من الأوهام الكبيرة التي تؤدي إلى إخفاق جهودنا في تعليم الطفل ما نريده.
اقرأ أيضًا تمكين العقول.. أهمية التعليم في عالم اليوم
الجوانب الخفية في عملية التعلُّم
ويرتبط بهذا الإخفاق ما لا ننتبه إليه من الجوانب الخفية في عملية التعلُّم، وهذه الجوانب تعد أكثر من 70% مما يتفاعل معه الطفل ويكتسب به مهاراته ومعارفه وأحاسيسه، ونقصد بهذه الجوانب العادات والتقاليد التي تؤثِّر في سلوك الطفل ماديًّا ومعنويًّا، كمثال النظافة والنظام الذي أشرت إليه، ويمكن لنا أن نتصور المسألة بالقياس على المادة المظلمة في وزن الكون، وهي المادة التي يقول علماء الفيزياء والكونيات إنها أكثر من نصف المادة الموجودة في العالم المنظور للأجرام السماوية، ووجود هذه المادة المظلمة (غير المنظورة) هو الذي يفسِّر سلوك الأجرام السماوية في تحركاتها المرئية.
والمادة المظلمة في نفس الطفل هي العادات والسلوكيات المنزلية، ويجب أن نضعها في اعتبارنا عند ممارسة عملية التعلُّم، ولذلك فإن خبراء التربية وعلماء الاجتماع يتفقون على أن المنزل يعد البيئة التي يكتسب منها الطفل معظم مفاهيمه وسلوكياته، ومن هنا فإنه يعيد تشكيل ما يكتسبه من المدرسة في ضوء ما يتعلمه في بيته، وعلينا أن نضع في اعتبارنا أن نتائج هذا التفاعل هي التي تكوِّن شخصية الطفل.
ولذلك، فإن عبارة "التعليم في الصغر كالنقش على الحجر" عبارة تحتاج إلى تعديل مفاهيمها المتضمنة، لأن التعليم ليس مجرد تلقين أو صب معلومات في نفس الطفل، وإنما النقش الحقيقي هو الذي يعني تفاعل المادة المنقوشة (الطفل) مع الناقش (المعلم)، والمعلم هنا ليس هو معلم المدرسة فحسب، وإنما هو كل من يتعامل معهم الطفل: الأب، والأم، والإخوة، والأعمام والعمات، والزملاء، ورفقاء اللعب...إلخ،
كل هؤلاء يتفاعل معهم الطفل، فيكتسب منهم مفاهيمه ويؤثِّر هو بنفسه في مفاهيمهم، فاحرصوا على أن تضبطوا سلوكياتكم مع الطفل حتى لا يكون ناتج تفاعله معكم غير ما تتمنون، وإذا ما أردتم أن يكون الطفل مهذبًا في لفظه وفي سلوكه فليكن تعاملكم معه مهذبًا، وألفاظكم المستخدمة معكم في حواركم معه مهذبًا، واشكره إذا ما ناولك شيئًا مهما كان يسيرًا، ليتعلم من هذا أن يشكر الناس حين يعاونونه في أي شيء مهما كان بسيطًا.
والخلاصة في ذلك أن التعليم في حقيقته عملية تفاعل وليس تلقينًا، وهذا يعني أن عملية التعلُّم تمضي في اتجاهين: مرسل ومستقبل، وكما يكون الطفل مستقبلًا، فإنه يكون أيضا مرسلًا، وقبل أن يكون مرسلًا فإنه يتفاعل مع ما يستقبله منكم، فيعيد تشكيله، وينتجه، ثم يرسله للمستقبلين من حوله، جميلًا وقبيحًا، حَسَبَ ما ترسَّب في نفسه من قبل.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.