الطبيب.. بطولة في زمن الحرب والأوبئة عبر التاريخ

روى الكاتب العالمي الدكتور «بول دوكرويف» في كتابه «صيادو الجراثيم» قصة البعثة الطبية الأميركية التي ذهبت إلى جزر الهند الغربية، ترتاد مجاهل الحمى الصفراء، لتتقصى أسبابها وتكتشف علاجًا لها ينقذ السكان والجنود الأمريكيين من شرها، وقد اهتدى أعضاء البعثة بعد جهود مضنية إلى أن البعوض سبب انتقال الملاريا، وأنه لا علاقة للجن والعفاريت بهذا المرض، خلافًا للاعتقاد السائد هناك.

وقد جمع «ريد»، رئيس البعثة، رجاله وقال لهم: لو أننا -رجال هذه البعثة- جازفنا بأرواحنا وجعلنا أجسامنا عرضة لبعوض تغذى من دم قوم محمومين، فشرب من دمائنا، لأثبتنا ما نحن في صدده، فقال الدكتور «لازار»، مساعده: أنا قبل عضة البعوض! وكانت له زوجة وطفلان! وقال الدكتور «كارول»: اعتمد عليَّ يا سيدي وتوكل على الله، وكانت له زوجة وخمسة أطفال!

كتاب "صيادو الجراثيم" لعالم الأحياء والكاتب "بول دي كرويف" صدر عام 1926

وقد اختارت البعوضة المميتة ظاهر كف الدكتور «لازار»، فنفثت فيه من سمومها، فإذا به يصاب بالحمى، ويسجل الأطباء الأدوار التي يمر بها زميلهم، ثم يقضي بعد أيام معدودات شهيد العلم والواجب.

أما الكوليرا فحديثها حديث ذو رهبة وخشوع، وفيه طرافة وتضحية، وفيه استشهاد وجرأة. لقد اجتاحت الكوليرا مصر سنة 1783م، فقضت على عشرات الألوف من المصريين، ونشر الشقاء سحبه القائمة على سماء الإسكندرية، فاندفع الناس إلى الجوامع يبتهلون إلى الله أن يرفع عنهم البلاء والشقاء، وأي بلاء وشقاء!

لقد كان يمضي الأخوان إلى عملهما، فيسقط أحدهما ميتًا لساعته، ويرجع الآخر مذعورًا هلعًا، أو لا يعود منهما للبيت عائد! وكان يأوي أفراد العائلة إلى أسرتهم فيودعون بعضهم؛ لأنهم ما كانوا يعرفون على من سيقع اختيار ملاك الموت، فقد يصبح الصباح ويكون بعضهم قد انتقل إلى الدار الآخرة.

في غمرة هذا الوباء الماحق، يتقدم كل من الدكتور «توبيه» و«رو» - البعثة الفرنسية - و«كوخ» ومساعده «جفكي» - البعثة الألمانية - ليجوسوا أرض مصر مستقصين، باحثين عن سر المرض، والتعرف على طرق مكافحته والوقاية منه، وينسون النوم والطعام، ويقيمون في حجرات موحشة يشرحون جثث المرضى من صرعى المرض، جاهدين لمعرفة علة الداء ومبعث عدواه.

وما هي إلا أيام حتى يسير الدكتور «توبيه» -وهو أصغر أطباء العالم آنذاك- إلى مصيره، شهيد تقصيه العلم وشهيد الواجب.. مات هذا الطبيب الشاب ولم يعرف من لذاذات الدنيا إلا لذة الشهادة.. جاء يقتنص جرثوم الكوليرا فاقتنصه الجرثوم، فراح شهيدًا.

وعلى الرغم من العداء المستحكم بين ألمانيا وفرنسا في ذلك الحين، والمنافسة العلمية الشديدة بين الأمتين والبعثتين؛ فقد تقدم الدكتور الألماني «كوخ» من قبر «توبيه»، فوضع عليه الأكاليل، وقال: «إنها غاية في البساطة، ولكنها من الغار، والغار هدية الأبطال».

ولم يكتفِ كوخ باكتشافه جرثوم الكوليرا في مصر، بل كتب إلى وزير الدولة يقول: «لقد وجدت جرثومة الكوليرا، ولكنني لم أثبت أنها سبب الداء، فابعث بي إلى الهند حيث توجد الكوليرا دائمًا، ففي الذي وجدته ما يكفي لتبرير إرسالي إليها»، وكان له ما أراد.

وبفضله، أُمِنت الشعوب والأجيال شر هذا الوباء الفتَّاك الذي كان يقضي على ملايين البشر.

ولهذه القصة تتمة طريفة لا تقل طرافة عن مقدمتها.. فلقد كان في مونيخ «ألمانيا» أستاذ يُسمى «بيتنكوفر»، لم تعجبه هذه الخطوات الجديدة والفتوحات الحديثة في عالم الطب، فأثارها حربًا شعواء على كوخ، والحرب كانت وما زالت بين قديم وحديث.

لم يقتنع باكتشاف كوخ العظيم، فكتب إليه يقول: «أرسل إليَّ شيئًا من جراثيم الكوليرا المزعومة، وأنا أثبت لك أن لا ضرر منها». فبعث إليه كوخ بأنبوبة تعج بهذه الجراثيم، فما كان من صاحبنا إلا أن رفعها إلى فمه وابتلعها ابتلاعًا. فارتاع كل طبيب، إذ كان في هذه الأنبوبة ملايين من الجراثيم تكفي لعدوى جيش برمته. ولكن أستاذ مونيخ تمطَّى بعد ما شربها استخفافًا وصاح متحديًا: «والآن فلنصبر وننتظر، هل تجيئني الكوليرا كما يزعم كوخ؟».

الطبيب معرض للموت في كل دقيقة فهو  في صراع مستمر مع عدو لا يُرى بالعين فيُتقى وهو الجرثوم

هذه القصة ومثيلاتها تعطينا مثالًا رائعًا على أن الطبيب في الحياة هو الشهيد المجهول.. فشهيد الوطن يتعرض للموت في زمن الحرب، وشهيد العقيدة يتعرض للأذى حين نشره عقائده وأفكاره.

ولكن الطبيب معرض للموت والشهادة في كل ساعة وفي كل دقيقة، فهو في صراع مستمر مع عدو مخاتل لا يُرى بالعين فيُتقى، وهو الجرثوم. إنه عدو لا يستأذن، ولا يعلن الحرب، ولا يشعرك بالخطر إلا إذا دخل الجسم ليعمل فيه نهشًا وتنكيلا. والطبيب في حرب دائمة لا يعرف هدنة ولا راحة.

فكم من الأطباء قضوا نحبهم نتيجة انتقال الأمراض إليهم من مرضاهم بالعدوى! فهذا مسلول أترع الهواء بجراثيم السل من نفثاته وآهاته، فاستنشقها الطبيب، فمشى إلى مصيره بخطى ثقيلة.

والتاريخ يذكر لنا أطباء أقدموا على الشهادة راضين مختارين، وقد علموا أو كادوا بمصيرهم المحتوم.. تقدموا ليكونوا في ساحة التجارب قرابين تُقدم على مذبح العلم فداءً للإنسانية.. فما عُرف داء، وما استُعمل دواء، إلا وكان له من الأطباء ضحايا وشهداء.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة