الطاعة العمياء واستخدام السلطة في بيئة العمل.. تجربة مستشفى "هوفلينج" نموذجًا

في مستشفى هوفلينج، وفي أثناء نوبات العمل الليلية، تلقت ممرضة اتصالًا هاتفيًّا من طبيب يُدعى السيد "سميث" يطلب منها أن تجد دواءً يسمى "أستروتن"، وعندما تجده في مخزن الأدوية عليها أن تعطي مريضًا مقيمًا يُدعى "جونز" 20 ملليجرام من هذا الدواء.

وعندما تفحص الممرضة التعليمات الإرشادية للدواء تنبه الطبيب المتصل أن الجرعة القصوى من العقار هي 10 ملجم، لينزعج ويطلب منها بصرامة وسلطوية أن تنفذ ما طلب منها على الفور لحين يأتي في الصباح لتفقد حالة المريض، ويغلق الهاتف على الفور.

تجربة مستشفى "هوفلينج"

وفي أثناء ذهاب الممرضة لغرفة السيد "جونز" تفكر في قواعد المستشفى التي تنص على عدم تلقي التعليمات عبر الهاتف، وكيف تعطي مريضًا ضعف الحد الأقصى من الدواء، ومن ثم هذا الدواء غير مصرح به وغير موجود في بروتوكلات علاج المريض.

إن فعلت ذلك فقد خالفت قواعد المستشفى وقواعد المهنة الأخلاقية، وهي على وشك أن تعطي المريض عقارًا مجهولًا يمكن أن يؤثر فيه سلبًا قد خالفت إنسانيتها، وكل ذلك كان نتيجة اتصال هاتفي لشخص مجهول يمتلك سلطة على بيئتها المهنية.

ذلك الدواء لم يكن غير حبة سكر غير ضارة، والطبيب المجهول والمريض هما أشخاص مشاركون في دراسة نفسية ميدانية تستهدف 22 ممرضة ليلية في مستشفى هوفلينج، وقد استجابت منهن 21 ممرضة للتعليمات المخالفة، ولم ترفض غير ممرضة واحدة.

تلك الدراسة الميدانية أنشأها الطبيب النفسي "تشارلز. ك هوفلينج" عام 1966م للتحقق من طاعة السلطة في بيئة العمل الحقيقي. وقد صمم التجربة لاختبار مدى قدرة الممرضات للامتثال لأوامر الطبيب حتى لو طلب منهن عملًا يمكن أن يؤذي المريض.

تجربة مستشفى هوفلينج

نظرية السلطة والطاعة

قبل الخوض في تجربة هوفلينج التي ركزت على تأثير السلطة والطاعة في بيئة العمل لا بد من توضيح المفهوم ذاته موضوع الدراسة.

فالسلطة والطاعة من المفاهيم المحورية في الدراسات الاجتماعية والنفسية؛ لأنها تُسهم في فهم ديناميكيات القوة والتأثير بين الأفراد والجماعات، وتتجسد في مختلف جوانب الحياة اليومية.

مفهوم السلطة

هي القدرة التي يمتلكها فرد أو مجموعة على التأثير في سلوك الآخرين وإلزامهم باتباع قواعد وأوامر معينة.

مفهوم الطاعة

هي الامتثال لأوامر وتعليمات تصدر عن مصدر للسلطة، وهي عملية ديناميكية تنطوي على تفاعل معقد بين الرغبة في الالتزام والخوف من العقاب أو الرغبة في تحقيق مكافأة.

نجد السلطة في العلاقات الاجتماعية الأسرية تتمثل في الآباء، والطاعة تمارس من قبل الأبناء، وفي العمل تتجسد السلطة الإدارية في تنظيم العلاقات بلوائح وسياسات محددة يلتزم الموظفون بها.

ومن أجل تحقيق استقرار مجتمعي وتوازن وازدهار لا بد من وجود سلطة واضحة، ونظام يلزم الأفراد بالالتزام بالقوانين والقواعد. والطاعة هي نتيجة للثقة في نظام السلطة؛ ما يعزز الانسجام والاستقرار. فالسلطة والطاعة هما العمود الفقري لأي مجتمع منظم.

ذلك هو ما تيسر عليَّ تبسيطه عن نظريات السلطة والطاعة من بوابة علم الاجتماع، ومنه نلقي نظرة عن السلطة والطاعة من بوابة علم النفس، ولا مجال يعلو فوق التجربة على بساط العلوم.

العوامل النفسية والاجتماعية لتجربة مستشفى هوفلينج

تعد تلك التجربة من أبرز التجارب التي سلطت الضوء على طبيعة الطاعة، وتأثير السلطة في قرارات الأفراد وخاصة في بيئات العمل، حيث كانت ركيزة أساسية في فهم طبيعة الطاعة وتأثيرها في السلوك الإنساني.

ولفهم سبب استجابة الممرضات لأوامر الطبيب المجهول يجب تحليل العوامل النفسية والاجتماعية التي أثرت في سلوكهن، ومنها:

العوامل النفسية

هيبة السلطة وتأثيرها

الطبيب في الثقافة الطبية مصدر للمعرفة والخبرة، وذلك يعطيه سلطة تلقائية تجعل الآخرين يميلون لطاعة توجيهاته دون التشكيك فيها. مجرد ذكر أنه الطبيب المسئول كان كافيًا لإثارة الشعور بالخضوع والطاعة لدى الممرضات.

الخوف من العواقب

الخوف من مخالفة تعليمات سلطة أعلى ومواجهة العقوبات المهنية كان عاملًا نفسيًّا مهمًّا. فعدم الالتزام بتوجيهات الطبيب يعرض وظائف تلك الممرضات للخطر، وذلك جزء من الضغط النفسي في بيئات العمل الهرمية.

المسئولية المنقولة

جزء من العوامل النفسية هو مفهوم تفويض المسئولية. فعندما نتلقى أوامر من سلطة عليا نميل إلى اعتبار هذه السلطة المسئولة عن النتائج والعواقب وليس نحن. وفي التجربة شعرت الممرضات أن الطبيب هو المسئول عن سلامة المرضى وليس هن.

الطبيعة الروتينية للعمل

في بيئات العمل الروتينية ذات الضغط الكبير يصبح الالتزام بالأوامر جزءًا من سلوك العمل دون تفكير نقدي؛ ما يجعل الأشخاص داخل بيئة العمل أكثر قابلية للطاعة حتى في المواقف غير الاعتيادية.

السلطة والطاعة في بيئة العمل

العوامل الاجتماعية 

الهيكل الهرمي للمجتمع الطبي

حيث يكون الطبيب في قمة الهرم، وله سلطة عليا على الممرضات، وهذا الترتيب الهرمي لبيئات العمل يشجع على الطاعة ويقلل فرص التحدي والاعتراض.

التوقعات المجتمعية

في بيئات العمل تمثل طاعة السلطة الأعلى صورة مثالية حيث الالتزام بالتوجهات؛ ما يجعل مقاومتها أو الاعتراض عليها خروجًا عن المألوف.

غياب الدعم الاجتماعي

أظهرت التجربة أن الأفراد يكونون أكثر عرضة للطاعة عندما يواجهون الأمر بمفردهم، مقارنة بالعمل ضمن فريق، حيث يكون الأمر أقل احتمالًا للتشاور أو البحث عن دعم جماعي يعزز القدرة على الاعتراض.

الثقة في النظام

الثقة في السلطة تجعل أي أوامر صحيحة بخلاف القواعد والتعليمات، حتى وإن بدت غير منطقية، وهذا ما يسمى الطاعة العمياء.

تجربة مستشفى هوفلينج ليست مجرد دراسة علمية، ولكنها مرآة تظهر أوجه ضعف الطبيعة البشرية، وكيف يمكن لشعور الخوف أو الثقة العمياء أن يهدم القيم الأخلاقية والمهنية.

والوعي بالتأثيرات الاجتماعية والنفسية لتأثير السلطة في الأفراد يساعد في تقييم المواقف المتعددة، واتخاذ القرارات بناءً على سلطة أعلى وثابتة وليست هشة ومتغيرة.

السلطة مهما كانت يجب أن تكون دائمًا موضع تحليل وتساؤل، لضمان أن قراراتنا وسلوكياتنا تظهر قيمنا الأخلاقية والإنسانية في المواقف الاعتيادية والمواقف غير المألوفة.

 

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة