الصناعات اليدوية في المدينة المنورة إرث من الإتقان والتعاون

كانت الصناعات اليدوية لها قيمتها عند أهل المدينة المنورة، وكان الصانع يعمل عمله بكل أمانة، وكان بعض الأبناء يساعدون آباءهم في صناعاتهم، بعد أن ينالوا قسطهم من التعليم في الكتاب أو المدرسة التحضيرية أو الابتدائية، وكثيرًا ما يلحق بعض الأبناء بعد تخرجهم من تعليمهم «وفكهم للحرف» بصنعة والدهم، عملًا بالمثل الذي يقول: «صنعة أبوك لا يغلبوك»، و«صنعة في اليد أمان من الفقر».

وكانوا بارعين ومتقنين في الصنعة، خصوصًا إذا كانت الصنعة متوارثة كابرًا عن كابر، وهم يفتخرون بذلك التسلسل المهني المتوارث. ولم نسمع أو نشاهد بأن ابنًا من الأبناء كان يخجل أو ينكسف من مهنة والده، سواء كان الوالد بائعًا، أو تاجرًا، أو متسببًا، أو صاحب مهنة؛ نجار أو نحَّاس أو حداد.. ولا نعرف أبناء من الأبناء في الحي أو الحوش أو الشارع كان يتوارى عن زملائه لكيلا يشاهدوه واقفًا أمام دكان والده، أو في مكان عمله، حتى الآباء لم نسمع منهم أي شكوى عن أبنائهم تدل على التبرم والتذمر والتعالي والتكبر من العمل الشريف.

وكان الوالد عندما يسجل ابنه في الكتاب أو في المدرسة يعطيهم العنوان الخاص بمقر عمله، فكان البواب أو الفراش يأتيه في دكانه بسجل الغياب أو الحضور، وشهادات النقل من صف لآخر، لأخذ البقشيش من يد الوالد، وكان شيخ الكتاب ومدير المدرسة والمدرسين جميعهم يعرفون عناوين التلاميذ ولا حرج في ذلك؛ لأن الاحترام السائد في طبقات المجتمع يقدّر لكل واحد مكانته.

وكانت الصناعات في المدينة المنورة سائدة في جميع طبقات المجتمع، بل ومحببة إليهم، ويحترمونها كل الاحترام، ويقدِّرون الأعمال اليدوية، لدرجة أن بعض الآباء الذين يعملون في أعمال غير صناعية يسعدون بإلحاق أبنائهم في أعمال صناعية في المدّة ما بين العصر وقبل أذان المغرب، وهم يرددون دائمًا المثل القائل: «الصناعة أولى من الصياعة».

والمجتمع يمجِّد الصانعين، ويحترمهم، ويقدِّر عملهم، وجهودهم المبذولة، ولا ينتقص من قدرهم، ولا يحطُّ من شأنهم، فهم محل الاعتزاز والإشادة بهم. فضلًا على تمديد هذه المهن والإعلاء من شأنها، على أن عددًا كبيرًا من أصحابها كانت أسماؤهم تتردد في كل مكان.

أهم الصناعات اليدوية في المدينة المنورة.. من النجارة إلى التطريز

ومن أهم الصناعات التي كان الأبناء يلتحقون بها من بعد صلاة العصر حتى قبيل أذان المغرب عند شيوخ الصنعة وأصحاب الشهرة من المعلمين الذين لهم وزن وثقل في المهنة، نذكر منها: (الصاغة - الجوهرجية - المطرزين - العقلجية - الخياطين - النجارة - الساعتشية - السمكرية - القطانة والمنجدين - الخرازين - الحلاقين - النحاسين - القفاصة - ... إلخ).

من أهم الصناعات التي كان الأبناء يلتحقون بها عند شيوخ الصنعة والمعلمين الخياطة والتطريز

ويوجد بعض الأبناء الذين يرغبون في تنمية مواردهم المالية، والحصول على مبالغ يكتسبونها من عرق جبينهم باستقلالية كاملة وبمساعدة الأهل، وذلك في أوقات فراغهم، وخاصة الوقت من بعد صلاة العصر إلى قبيل أذان المغرب. فهؤلاء يبيعون الحلوى، وبعضهم ببيع البليلة، والترمس، والفول المسلوق، والحلبة، وبعضهم يبيع الشراب، وهو الشربيت الأحمر والأصفر والملون، وبعضهم يبيع الدندرمة وهي الآيسكريم، وبعضهم يبيع الأقر، وهو نوع من الماسية، وبعضهم يبيع ألعاب الأطفال، وبعضهم يبيع «الكاز» الكيروسين، ومنهم من يبيع الشاي مع الحليب، ومنهم من يبيع البالونات، وغير ذلك من المبيعات.

على أن هذه المبيعات تكثر ويزداد عمل الأبناء، وخاصة في الموسم، في شهر رمضان المبارك، وفي العيدين، وموسم الحج. المهم، الكل يعمل ويكسب ويجتهد، ويقضي أوقات الفراغ بما يعود عليهم بالفائدة المرجوة، وهم مع ذلك لا ينسون وقت لعبهم ومرحهم.

دور النساء في الحفاظ على الصناعات التقليدية

أما النساء والفتيات في البيوت، فلهن نصيب كبير من هذه الصناعات اليدوية؛ إذ إنَّ معظم النساء يقمن بالنسيج على المنسج الخشبي البسيط، ويشتغلن لمناديل نسائية ورجالية، وتتك السراويل المطرزة، وشغل السراويل البسيطة والعريضة، والسبع إبر، وهي المشهورة في السراويل، كما يطرزن الطواقي السيم، وينقشن جدارها بالسيم الملون، وهو نوع من أنواع القصب الخفيف، وهذه الطواقي مرغوبة عند الحجاج والزائرين يشترونها هدايا لأبنائهم.

وكانت الفتيات يتعلمن فن التطريز في بعض الكتاتيب، ومن أشهرها: كتاب الخوجة زينب مغربلية في العنبرية، إذ يُخصص وقت لهن في التدريب على أعمال النسج والتطريز.

كما كانت بعض الفتيات يتعلمن كثيرًا من الصناعات اليدوية، واشتهرت بذلك دار الأيتام والصنائع الوطنية، وكان الذي يتخرج من الدار تكون في يده صنعة قد تدرّب عليها.

كما كانت المدرسة الصناعية في بداية نشأتها تهتم ببعض الصنائع اليدوية، كالنسيج وغير ذلك، ما أتاح لبعض الدارسين أن ينسج خارطة المملكة العربية السعودية على سجادة ضمَّت جميع الألوان، وكانت تحفة رائعة.

كانت المدرسة الصناعية في المدينة المنورة في بداية نشأتها تهتم بالصناعات اليدوية

وكان كتاب الشيخ حامد شيخ في المرادية بالعنبرية يُدرِّب التلاميذ على فن النقش والدهان بماء الذهب على المرايا التي كانت تتقدَّم فراش العروس، وكان ذلك العمل من بعد صلاة العصر حتى قبيل صلاة المغرب، حيث صرفة التلاميذ، وكان معظم التلاميذ الذين يأتون في هذه الفترة قد أتقنوا هذا الفن.

وبعض النساء اللاتي يعملن في البساتين والبلدان، وهنَّ يعملن الموانات، والموانة هي التي تجمع النعانيع والخضرة من الحقل وتربطها، وكذلك البرسيم والخضراوات.

وقد برع بعض الموانات ونساء بعض المزارعين وغيرهن في عمل الحصر، والقفف، والمكانس، والمراوح، والمفتَّات،... إلخ.

ثم إن بعض النسوة يقمن بغزل الليف من النخل وعمله على هيئة ليف لتنظيف الجسم.

ويوجد من يعمل من جريد النخل: أقفاصًا للطيور والدواجن، ومن يعمل من الجريد أسِرّة النوم والبنيكات، وهي الطاولات التي توضع عليها دواوير الفاكهة، والنخلة كلها فائدة.

وكان يوجد  سوق يسمى: «سوق القفَّاصة»، على أن بعض النسوة في السابق اشتهرن بغزل الصوف، وكانت المرأة تصاحب مغزلها في السوق، وخصوصًا سوق الحطابة في مناخ الحطب، وكانت تبيع أشياء من غزلها مثل الحبال المرينة، وبعض الساحات والبُسُط، وكانت تهتم بعمل قِرَب الماء بعد دبغها، وعُكُك السمن، وقدود العسل، وجميعها تُعمل من الجلد بعد إضافة مواد الدباغ إليه.

لقد كانت الصناعات اليدوية جزءًا أصيلًا من نسيج مجتمع المدينة المنورة، شاهدة على العراقة والتاريخ الغني للمجتمع، وتظهر قيم الإتقان والتعاون والاحترام المتبادل. هذا الإرث الغني يذكرنا بأهمية العمل اليدوي وقيمته في بناء المجتمعات وتنميتها، وبدور الرجال والنساء على حد سواء في الحفاظ على هذه الحرف ونقلها عبر الأجيال، وعلى الرغم من التطور التكنولوجي؛ فإن هذه المهن تحمل قيمة كبيرة وتستحق التقدير والاحترام، إنها قصة تستحق التقدير والتذكرة.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة