بعض القصص القصيرة عندما تقرأها، ورغم كتابتها بلغة سلسلة وسهلة وميسرة، لكنها تثير الفضول والحيرة، كأن الكاتب يدفن بداخلها سرًّا خفيًّا، على غرار (المعنى في بطن الشاعر).
وهنا بالسرد القصصي الأمر مختلف، فتظل تكرر قراءتها محاولًا فك اللغز أو الألغاز الممتلئ بها المتن القصصي.
اقرأ أيضاً جزء حصري من رواية "عن بعد ".. للكاتب أحمد فريد
قصة "طقوس آنية جدًّا" للكاتب "جمال قاسم"
القصة التي بين أيدينا «طقوس آنية جدًّا» للكاتب البورسعيدي «جمال قاسم» منشورة بالعدد الأول 2021 من مجلة مرجان- ص72-74، والمجلة يصدرها إقليم القناة وسيناء الثقافي التابع للهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية.
هذه القصة من هذه النوعية من القصص، فكلمة طقوس هي جمع لكلمة طقس، وفعلًا القصة ممتلئة بالمشاهدة الطقسية، فهي تجمع كل أحوال الإنسان في جميع الفصول المناخية والمزاجية في آن واحد! وكنت قد قررت ألا أتعرض لها بالعرض والكتابة عنها بعد قراءتها للمرة الأولى، لكنني وجدت بها نقاط تشابه يمكن جمعها وترتيبها والتحدث عنها حتى ولو على نحو وصفي ظاهري، عسانا نستخلص رسائل ما يريد المؤلف إيصالها لنا بالنهاية.
وعلى كل حال فإن أصبنا في تحليل القصة فهذا جيد، وإن لم ننجح على النحو الكافي فيكفينا أن نكون سطَّرنا ما استطعنا فهمه منها.
اقرأ أيضاً " بابا ياجا ".. قصص رعب روسية تشبه تراثنا المصري
ملخص قصة "طقوس آنية جدًّا"
ترصد القصة على لسان البطل الراوي جميع المشكلات الحياتية للإنسان المصري المعاصر، بعد أن يصل لسن التقاعد عن العمل، وتصبح حركته أقل وأبطأ من سنوات عمره الفائتة، ونظرته الكلية للحياة.
شرب الشاي بنهم شديد: (لم تكن معنيًّا من قبل بشاي الخامسة)؛ (تفقد شهيتك للطعام، للنوم، تشير لهم فيفهموا من حركات يدك رغبتك في كمية كبيرة من الشاي، يضعونه، ترتعش وأنت تشرب بلهفة). (الآن ما تزال بعيدًا لا ترى ولا تسمع ضجيج ابنك الحائر بين إعرابين؛ شربت الشاي ساخنًا أم ساخن؟).
(تسحب نفَسًا عميقًا، تأخذ جرعة الشاي، تشهق، تتألم، يسألك الأبناء عما أصابك، تجيب وأنت واضع يدك على فمك، في حركة مفتعلة: شربت الشاي سخن، ينظرون إلى كوب الشاي البارد بلا اهتمام في حين يكتب ابنك: شربت الشاي سخن..).
يتضح من كثرة شرب البطل للشاي في المدة الأخيرة، أنها لم تكن من عاداته السابقة، زيادة احتسائه للشاي أضحت متناسبة عكسيًّا مع قلة إقباله على الطعام والنوم طبعًا لزيادة نسبة المنبهات في جسده، ولضعف في حاسة السمع.
قراءة وتصفح الصحف: (لم تكن معنيًّا من قبل بجرائد المساء). (تقلِّب في الجريدة التي لا تعلم كيف جئت بها. تبحث عن وظيفة كنت تتمناها قديمًا، ولأن الحروف صغيرة، ولأنك فقدت قدرتك على القراءة فتمسك الصحيفة مقلوبة مرة ومعدولة مرة).
(الآن تفزع، تنتبه، تمسك الجريدة، تحاول مرة ثانية، تفشل، تلقي الجريدة، تمسك كتابًا، تلقي الكتاب، تمسك قلمًا، تلقي القلم، تمسك الريموت، تقترب من الشاشة، تحدق، تقلب، الوجوه نفسها والأخبار نفسها).
صار البطل ضعيف البصر كمن هم في مثل عمره المتقدم، وحالة من السعة في الفراغ وعدم الاستطاعة تملأه بشيء جديد يكسر حالة الملل والروتين اليومي المتكرر.
اقرأ أيضاً الكتابة الأدبية.. صورة الرجل والذات في المجموعة القصصية
الخيال في قصة "طقوس آنية جدًّا"
حلم اليقظة هو إعمال الذهن في تحقيق الرغبات، بما يحقق إشباعًا على مستوى الخيال؛ إذ يلجأ الأشخاص إلى خيالهم، ويشردون فيه، كي يحققوا إشباعًا لا يستطيعون تحقيقه في الواقع؛ (تحاول، تتلعثم، تتداخل الحروف، تبتعد، تحاورك، تحاول، تفشل، تضع يدك على خدك وتحدق في اللاشيء وتدخل أحلام اليقظة. تزحف من حلم إلى آخر حتى دخلت حلمك الكبير وأصبحت على النقيض منك الآن...).
وعادة، يمارس جميع الناس أحلام اليقظة، ولكن من دون إغراق فيها. أمَّا من يغرقون في أحلام اليقظة، فإنهم يشكون من كثرة السرحان، وعدم تذكر الأشياء، والبطء في إنهاء المهام التي يريدون إنجازها.
(الآن تجلس واضعًا ساقًا فوق ساق، فاردًا صدرك، منتشيًا، موزعًا هيبتك على الملأ، وفي شموخ ووقار تعلن أن هذا اليوم عيد قومي للفوضى والاستهبال، بعد أن تعدل من رابطة عنقك وتنقض يديك من كل شيء وتنسل خارج الحلم، ثم تُحكم إغلاق الباب خلفك وتتركهم لاحتفالاتهم.. طبل، زمر، رقص، طعام، شراب، تهاني، عناق، يفعلون ما لم يكونوا يفعلون، يتقاربون، يختلطون، يمتزجون، يذوبون، لا ضوابط، لا حلال، لا حرام، لا ثواب، لا عقاب، كل شيء متاح الآن).
فإذا لم يجد الفرد وسيلة لإشباع دوافعه في الواقع فإنه قد يحقق إشباعًا جزئيًّا عن طريق التخيل وأحلام اليقظة، وبذلك يخف القلق والتوتر المرتبط بدوافعه؛ (تمسك القلم، تحاول كتابة أي شيء. تشخبط، تتأفف، تلقي القلم، تتوتر، تدخن، تمسك أعصابك، وتضغط على عينيك محاولًا إنزال الدموع المتحجرة، تنزوي بعيدًا عن الأبناء، تجلس القرفصاء، تدفن رأسك بين أطلال صداقات وأنقاض أهل ووطن باهت يضيق بك منذ ولادتك حتى الآن. الآن تتماسك، تجفف دموعك).
اقرأ أيضاً مؤلفات يحيى حقي وأشهر أعماله ورواياته
ماذا تناولت قصة "طقوس آنية جدًّا"؟
الاستغراق الشديد في أحلام اليقظة لدرجة استنفاد جزء كبير من الطاقة النفسية، يؤدي ذلك للإسراف فيها على نحو عصابي مرَضي، قد ينتهي إلى العجز عن التمييز بين الواقع والخيال؛ (فجأة تنتفض، تهز رأسك، ترجُّها، تدلِّك جبهتك بقوة محاولًا تشغيل ذاكرتك، لم تقتنع بعد بأنك عدت من ذلك اليوم الأكثر ضراوة وأنك ما زلت على قيد الحياة حتى الآن).
وطبعًا عن طريق أحلام اليقظة والإصرار على تحقيقها قد يمكن للشخص الوصول لما أراد أو يمكن الاكتفاء بالتخيل فقط.
(الآن لا تتذكر كيف عدت وأي الشوارع سلكت وأي الوجوه قابلت وصافحت وزاحمت وفي أي الميادين تظاهرت وصرخت وطالبت وفشلت وتورطت وأي السيارات صعدت ونزلت ثم صعدت ونزلت، وعلى أي أرصفة التقطت أنفاسك وإلى أي الحوائط استندت، ثم تحسست خطاك ومشيت، مشيت حاملًا كمًّا من التهكمات وآثار وشايات. تتوكأ على قدر ضئيل من المواساة وتطييب الخاطر).
ولا شك أن الإنسان المصاب بحلم اليقظة يجب أن يتخلص منه على الفور إن زاد عن حده أو أدى ذلك إلى تعطل بعض أمور حياته. إن الإنسان المصاب بحلم اليقظة لا يستطيع أن يتقدم في حياته، فقد يلقي اللوم على أشخاص آخرين لا ذنب لهم ولكن فقط ليرضي نفسه، فيخلق لنفسه عالمًا افتراضيًّا يعيش فيه ويحقق آماله وأهدافه عن طريقه، ولكن ذلك في عقله الباطن فقط وفي عالمه الذي صنعه لنفسه لا في الحياة الواقعية.
(لم تتذكر أيضًا أي الأبواب طرقت وطرقت ثم دخلت مترنحًا وارتميت محدقًا في كل ما حولك. نظراتك مليئة بالاغتراب ورأسك مزدحم مثل سوق، تخرج منك أصوات كثيرة متداخلة. نداءات، همهمات، صراعات، هذيان، كلمات مبعثرة «ديون، دروس، بنات، زواج، كساد، فساد، عيش، طماطم، مدير، مرتب، زميل، نميمة، جزاء، غذاء، وباء، واء، بيب، تيت، وسع، حاسب، رجلي، طاخ، طوخ، تش، اااه،...»).
أسلوب الكاتب في الفصة
الوجدان البصلي الكاذب أو العاطفة البصلية الكاذبة هو نوع من الاضطراب العاطفي يتميز بنوبات لا يمكن السيطرة عليها من البكاء أو الضحك أو البكاء والضحك معًا أو المشاعر العاطفية الأخرى.
(تبتسم من غبائك وتشد شعرك بقوة حتى تكاد تنزعه وتردد ما كتب متألمًا مرة، متعجبًا مرة، مندهشًا، ورافضًا مرة، لكن في كل المرات يعتليك وأبناءك الضحك، تضرب كفًّا بكف، وتعلو بضحكتك فتزداد الدموع، تزداد الآن... الآن لم يعد عليك أدنى حرج أن يروا دموعك؛ فهم يعرفون جيدًا أنك حين تضحك لا بد لدموعك من النزول).
فقد يضحك المريض على نحو لا يمكن السيطرة عليه عندما يكون غاضبًا أو محبطًا، على سبيل المثال. في بعض الأحيان، قد تتحول الحلقات بين الحالات العاطفية، ما يؤدي إلى بكاء المريض على نحو لا يمكن السيطرة عليه قبل أن يتحول البكاء إلى نوبات من الضحك.
(ففي مثل هذا الوقت تكون سابحًا في ملكوتك، ممددًا، وديعًا، رائقًا، رائعًا، منسابًا في السماء تداعبك الملائكة. تأكل أشياء وتشرب أشياء وتفعل أشياء لم تخطر لك على بال، ماحيًا من ذاكرتك ما أنت عليه الآن...)..
بطل قصة "طقوس آنية جدًّا"
من الواضح أن بطل قصة «طقوس آنية جدًّا» للقاص/ جمال قاسم مصاب بالإحباط، وهو فشل الإنسان في الوصول إلى هدف ما، المصاحب بشعور وجداني بالخيبـة والهزيمـة. وقـد يعي الإنسان هذا الشعور، وهو الإحباط على مستوى الوعي، وقد لا يعيه، وهو الإحباط على مستوى اللاوعي. ومن خلال أحداث القصة يتبين لنا أن بطل هذه القصة كان على دراية ووعي كامل بهذا الشعور الوجداني.
(تضرب بسيفك وسخطك وغِلِّك هنا وهناك، تغتنم كل ما فاتك وما لم يفتك، تحاصر المماليك فيستسلمون، تجردهم من أسلحتهم، رتبهم، ألقابهم، مناصبهم، ملابسهم، أحذيتهم، تجمد الدماء في عروقهم، وأرصدتهم في البنوك، تسكن قصورهم، تستولي على مصانعهم، مزارعهم، خيولهم، جمالهم، أبقارهم، سياراتهم، تحطم أنوفهم، تقطع آذانهم، وألسنتهم، تصلبهم في الميادين وإشارات المرور، وعلى أبواب الدواوين، تصدر فرمانك الأول بمعاقبة كل من لم يبصق عليهم الآن).
رغبة البطل الراوي في الانتقام من كل من ظلم هذا الشعب منذ عصر المماليك مرورًا بكل من حكموا هذه البلاد حتى الوصول للعصر الحديث، وأسرهم ومحاكمتهم محاكمة ثورية في الميادين التي ذكرها خلال القصة ثلاثة مرات؛ مرة في البداية، ومرة في المنتصف، ومرة في النهاية، بل ومصادرة كافة ممتلكاتهم التي جمعوها من جيوب وقوت الناس ظلمًا وعدوانًا، بالطبع مع اختلاف تلك الثروات باختلاف العصر.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.