في ذلك الزمن الجميل، عندما كان الليل يرخي سدوله، يكشف عن قلوب بيضاء تنير كالقمر، تسكنها الصراحة كالمهند المغمور في غمده لا يبرحه إلا ليعدل.
يتنفسون طرف الحديث بينهم بنقاء خالٍ من الشوائب، وفعلهم كنهر جارٍ لا يعرف سبيلًا للالتواء.
صراحتهم كالنسيم العليل، تنعش الأرواح، تكسوها الحكمة واللطف، لا تجرح ولا تخدش، مثل الندى على أوراق الورود، تغمر الأرواح برقة وشفافية.
اختيارهم للألفاظ كالتقاطهم حبات اللؤلؤ في أعماق البحار، يدركون أن للكلمة وقعًا شديدًا على النفس، تُبنى على الاحترام، تُغلف بالصدق، وتُقال بحذر، كأنها مطوية تحاك حروفها بأجمل الخطوط، وأنعم خيوط.
تعزز الثقة بين أفراد المجتمع، حيث تقال الحقائق دون مداهنة، تراعي مشاعر الآخرين فتكون العلاقات قائمة على الاحترام المتبادل، وتسهم في حل النزاعات، وتفتح الأبواب للحوار البنَّاء، وتعزز الروابط الاجتماعية، فيعبر الجميع عن مشاعرهم وآرائهم بصراحة دون خوف من الانتقاد الجارح، وتغرس القيم الإيجابية.
كما تحقق السلام الداخلي لأن الشخص ينفض عن كاهله أعباء الكذب والتصنع، فيصبح المجتمع أكثر انسجامًا وشفافية، فيسهم في تحقيق التقدم والازدهار، فهي جسر يعبر بين القلوب تجعل العلاقات صافية كالماء العذب.
اقرأ أيضًا/ ما هو الفرق بين الصراحة والوقاحة؟
فما بالنا اليوم صرنا نرى وجهًا آخر للصراحة؟
صارت الكلمات كالسيوف الجارحة، تجرح بشقيها دون رعاية أو تأنٍ، أضحت تلبس قناعًا تخفي تحته النوايا غير الحقيقية، كما تخفي الغيوم شمس الشتاء الباهتة، صارت كأمواج البحر الهادرة، تعصف دون هوادة، تغمر ما يعترضها دون إحساس، تُلقى على عواهنها دون حساب للعواقب، فتترك القلوب مثخنة بالجراح.
تحولت إلى مرآة تظهر الصورة بلا تنقيح، تبرز العيوب قبل المحاسن، تخالها عينًا لا ترى غير النقائض، والتي بدورها أدت لتدمير الثقة بين الأطراف.
تثير المشاحنات بدلًا من حل المشكلات، تُشعر الناس بالخوف وعدم الأمان، تدمر العلاقات الأسرية، وتخلق بيئة سلبية، حيث يشعر الأفراد بالإحباط من التعبير عن أنفسهم، ويصاب كثيرون بعزلة اجتماعية، تسبب له تأثيرات نفسية بعيدة الأمد؛ ما يؤدي إلى أن يُنظر للصراحة على أنها سلبية بحد ذاتها، فهي تطفئ الشموع بدلًا من أن تزيدها اشتعالًا.
ومن الأمثلة على تلك الصراحة عندما تقول للشخص أنت فاشل بدلًا من "يمكنك التحسن"، حينها تصبح الصراحة هدامة، ثم إن نقد الأسلوب والمظهر بطريقة ساخرة يجعل الشخص يشعر بالإهانة بدلًا من التحفيز. فلا يكفي أن تكون الصراحة صحيحة في مضمونها، بل يجب أن تقال بلطف واحترام؛ لتصبح أداة للبناء لا للهدم.
اقرأ أيضًا: قصة "لعبة الصراحة".. قصة قصيرة
هل فقدنا مهارة قول الحقيقة برفق؟ أم أن تكالب الأحداث مع التقدم في الزمن جعلنا نؤمن بأن الصراحة لا تكون إلا جارحة؟
فالصراحة الحقيقية تلك التي تضيء الطريق دون أن تحرق العابرين، كفانوس يضيء ليلًا بلا وهج يؤذي عيون المسترشدين، فلنعد إلى الصراحة الحقيقية، فهي كالعطر لا يُرى، ولكن نشتم رائحته الزكية.
كم جميل حديثك أنيقة كلماتك
أجدت الوصف والتعبير 👍🌹
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.