يُعد فصل الربيع من أجمل فصول السنة، بل هو الأجمل على الإطلاق، ينتظره الناس بشغف في أرجاء الأرض، تحكي تعابيرهم وردات أفعالهم الشيء الكثير والمثير للتعلق بأحلى فصول العام، وتململهم من فصلي الشتاء والصيف لشدة البرودة في الشتاء وشدة الحر في فصل الصيف لا يخفى على أحد، مما يُنْبِئ عن مدى شوق وميل الإنسان بطبيعته إلى جو لطيف معتدل لا يجنح إلى الجو الحار أو البارد على حد سواء.
فترى أولئك الذين يقطنون في مناطق حارة يُمَنّون النفس أن يحظوا بطقس بارد نوعًا ما، كي يُخفف وطأة شدة الحر عليهم، وعلى النقيض فإن سكان المناطق الباردة يتوقون إلى فصل تشرق الشمس فيه دافئة لا يشوبها غيوم تحجب أشعة الشمس المدهشة عنهم فتحرمهم من التمتع بضيائها، يُصيبهم الضجر من البرد القارس الذي يُجمِّد أوصالهم ويَحرمهم أن يُمارسوا أنشطتهم المحببة إلى قلوبهم في جو مشرق معتدل البرودة.
فصل الربيع لصفي الدين الحلي
لذا كان فصل الربيع وما يزال الفصل المفضل والمحبب إلى قلوب كثير من البشر، ومن أجل ذلك نظم الشعراء قصائد وأشعارًا في مدح الربيع والتغني بجماله والافتتان بروعة نهاره ولياليه، فهذا صفي الدين الحلي يُبدع في أبيات منمقة عن فصل الربيع وتفاصيل ممتعة تملأ الوجدان بالطمأنينة والسكون والبهجة، فيقول في قصيدته:
وَرَدَ الرَبيعُ فَمَرحَباً بِوُرودِهِ
وَبِنورِ بَهجَتِهِ وَنَورِ وُرودِهِ
وَبِحُسنِ مَنظَرِهِ وَطيبِ نَسيمِهِ
وَأَنيقِ مَلبَسِهِ وَوَشيِ بُرودِهِ
فَصلٌ إِذا اِفتَخَرَ الزَمانُ فَإِنَّهُ
إِنسانُ مُقلَتِهِ وَبَيتُ قَصيدِهِ
يُغني المِزاجَ عَنِ العِلاجِ نَسيمُهُ
بِاللُطفِ عِندَ هِبوبِهِ وَرُكودِهِ
يا حَبَّذا أَزهارُهُ وَثِمارُهُ
وَنَباتُ ناجِمِهِ وَحَبُّ حَصيدِهِ
وَتَجاوُبُ الأَطيارِ في أَشجارِهِ
كَبَناتِ مَعبَدَ في مَواجِبِ عودِهِ
وَالغُصنُ قَد كُسِيَ الغَلائِلَ بَعدَما
أَخَذَت يَدا كانونَ في تَجريدِهِ
نالَ الصِبا بَعدَ المَشيبِ وَقَد جَرى
ماءُ الشَبيبَةِ في مَنابِتِ عودِهِ
وَالوَردُ في أَعلى الغُصونِ كَأَنَّهُ
مَلِكٌ تَحُفُّ بِهِ سَراةُ جُنودِهِ
وَكَأَنَّما القَدّاحُ سِمطُ لآلِئٍ
هُوَ لِلقَضيبِ قِلادَةٌ في جيدِهِ
وَالياسَمينُ كَعاشِقٌ قَد شَفَّهُ
جَورُ الحَبيبِ بِهَجرِهِ وَصُدودِهِ
وَاِنظُر لِنَرجِسِهِ الشَهِيِّ كَأَنَّهُ
طَرفٌ تَنَبَّهَ بَعدَ طولِ هُجودِهِ
وَاِعجَب لِأَذَريونِهِ وَبَهارِهِ
كَالتِبرِ يَزهو بِاِختِلافِ نُقودِهِ
وَاِنظُر إِلى المَنظومِ مِن مَنثورِهِ
مُتَنَوِّعاً بِفُصولِهِ وَعُقودِهِ
أَوَما تَرى الغَيمَ الرَقيقَ وَما بَدا
لِلعَينِ مِن أَشكالِهِ وَطُرودِهِ
وَالسُحبُ تَعقُدُ في السَماءِ مَآتِماً
وَالأَرضُ في عُرسِ الزَمانِ وَعيدِهِ
نَدَبَت فَشَقَّ لَها الشَقيقُ جُيوبَهُ
وَاِزرَقَّ سَوسَنُها لِلَطمِ خُدودِهِ
وَالماءُ في تَيّارِ دِجلَةَ مُطلَقٌ
وَالجِسرُ في أَصفادِهِ وَقُيودِهِ
وَالغَيمُ يَحكي الماءَ في جَرَيانِهِ
وَالماءُ يَحكي الغَيمَ في تَجعيدِهِ
فَابكُر إِلى رَوضٍ أَنيقٍ ظِلُّهُ
فَالعَيشُ بَينَ بَسيطِهِ وَمَديدِهِ
وَإِذا رَأَيتَ جَديدَ رَوضٍ ناضِرٍ
فَاِرشُف عَتيقَ الراحِ فَوقَ جَديدِهِ
مِن كَفِّ ذي هَيَفٍ يُضاعِفُ خُلقُه
سُكرَ المُدامِ بِشَدوِهِ وَنَشيدِهِ
صافي الأَديمِ تَرى إِذا شاهَدتَهُ
تِمثالَ شَخصِكَ في صَفاءِ خُدودِهِ
وَإِذا بَلَغتَ مِنَ المُدامَةِ غايَةً
فَاِقلِل لِتُذكي الفَهمَ بَعدَ خُمودِهِ
إِنَّ المُدامَ إِذا تَزايَدَ حَدُّها
في الشُربِ كانَ النَقصُ في مَحدودِهِ
ابن الرومي في وصف الربيع
وهاكم ابن الرومي يتغزَّل في وصف الربيع وكأنه مخلوق حي يضحك ويبتسم، فهو يتفنَّن ويتفرَّد في تجسيد جمال علامات الربيع بأدق الوصف التي توحي بمدى تعلُّق الإنسان بفطرته بعشق الربيع الذي هو إحدى سمات الطبيعة المبهرة؛ لما لها من إضافة ألقٍ وبريقٍ وحيوية على الكرة الأرضية، فتعمٌّ الكائنات الحية السعادة والفرح والرضا، إذ يقول ممتدحًا فصل الربيع:
ضحكَ الربيعُ إلى بكا الدِّيمِ
وغدا يُسَوِّي النبت بالقمَمِ
من بين أخضرَ لابسٍ كُمَماً
خُضْراً وأزهرَ غير ذي كُمَمِ
مُتلاحِق الأطرافِ مُتَّسقٍ
فكأنَّه قد طُمَّ بالجَلمِ
مُتبلِّجِ الضَّحواتِ مُشرِقِها
متأرِّجِ الأسحار والعَتَمِ
تَجِدُ الوحوشُ به كفايتَها
والطيرُ فيه عتيدةُ الطِّعَمِ
فظباؤهُ تُضْحي بمُنْتَطَحٍ
وحمامُه تُضْحِي بمختصمِ
أحذى الأميرُ ربيعَنا خُلُقًا
يهمي إذا ما البرقُ لم يُشَمِ
فالقطْرُ ضربةُ لازمٍ قسمًا
والصحوُ فيه تحِلَّةُ القسمِ
والروضُ في قِطَعِ الزَّبَرجَدِ والْ
ياقوتُ تحت لآلِئٍ تُؤمِ
طلٌّ يُرقرقُهُ على ورقٍ
فكأنّه درٌّ على لِمَمِ
حشد الربيعُ مع الربيع لهُ
فغدا يهُزُّ أثائثَ الجُممِ
والدولةُ الزهراءُ والزمن ال
مِزهار حسبك شافيَ القَرَمِ
إن الربيعَ لكالشَّباب وإنْ
نَ الصيفَ يكسعه لكالهرمِ
أشقائقَ النُّعمانِ بين رُبَى
نُعمانَ أنتِ محاسنُ النِّعمِ
غدتِ الشقائقُ وهْي واصفةٌ
آلاءَ ذي الجبروتِ والعِظَمِ
تُرَفٌ لأبصارٍ حلَلْنَ بها
لِيرَيْنَ كيف عجائبُ الحِكمِ
بديع الزمان الهمذاني وقصيدته عن الربيع
وليس بعيدًا عن ابن الرومي، يطالعنا بديع الزمان الهمذاني، بقصيدة من أروع القصائد التي نُظِمت في الإطراء على فصل الربيع، وهذا إن دلَّ فإنما يدلُّ على المكانة المميزة التي يشغلها فصل الربيع في قلوب البشر، وحرص الشعراء، خاصة في عصر الدولة الإسلامية بمختلف عهودها، على إفراد مساحة لافتة للنظر من شعرهم لإسباغ الثناء على فصل الربيع، فهو لمعظم الشعراء والأدباء والمفكرين مصدرًا للأمل والتفاؤل والإلهام، إذا ما حان وقت قدومه، فهو خير فصل للعمل المثمر، وتحسين المزاج، والترويح عن النفس بتنظيم الرحلات الخارجية إلى حيث الطبيعة الحية التي ترسم معانيه بأحسن لوحة فنية، في البساتين والرياض والغابات والأودية والمدن الساحلية، والأرياف، وسفوح الجبال التي تكتسي بأحلى حلة في فصل الربيع، ومن هنا ينبري الشاعر الهمذاني مُنْعِمًا على الربيع بفيض من المديح في قوله:
برق الربيع لنا برونق مائه
فانظر لروعةِ أرضه وسمائهِ
فالترب بين ممسك ومعنبر
من نوره بل مائه وروائه
والماء بين مُصندل ومكفر
من حسن كدرته ولون صفائه
والطير مثل المحسنات صوادح
مثل المغنّي شاديًا بغنائه
والورد ليس بممسك رياه بل
يُهدي لنا نفحاته من مائه
زمن الربيع جلبت أزكى متجر
وجلوت للرائين خير جلائه
فكأنه هذا الرئيس إذا بدا
في خلقه وصفائه وعطائه
يعشو إليه المجتدي والمجتني
والمجتوي هو هارب بذَمائه
ما البحر في تزخاره والغيث في
أمطاره والجوْد في أنوائهِ
بأجلَ منه مواهبًا ورغائبًا
لا زال هذا المجد حول فنائه
والسادة الباقون سادة عصره
متمدحين بمدحه وثنائهِ
لماذا يفضل الإنسان فصل الربيع؟
لا ينتهي الشعر بما يتضمنه من أبيات عن الربيع، لا سيما تتنوع القصائد وتزهو أبياتها وتتراقص بطيب الكلم وحلو المفردات وسلاسة العبارات في مدح الربيع والتغني بجمال معالمه وروعة نسماته العليلة، ولشدة لطافته واعتدال أجوائه لتشفي الأعلاء وتطفئ نار المحزونين وتذهب همَّ المهمومين، وتليِّن قلوب الناقمين، وتخمد غيظ الغاضبين وتسكن فؤاد الحيارى.
فليت فصول العام ربيعًا...
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.