دخل البيت متسللاً على أطراف أصابعه واتجه إلى المطبخ ليجد الأكل كالعادة مغطى، أما هذه المرة فكان عشاءًا جيدًا وعلى غير العادة، فقطعتا اللحم الموضوعتان في الصحن يبدو عليهما الفخامة، ولأن التعب والجوع قد نالا منه فقد تناولهما على عجل ولم يسأل عن مصدرهما، وأرجأ ذلك إلى الصباح.
ارتمى على السرير كجثة هامدة، وراح يغط في نوم عميق، بعد مدة قصيرة دخلت والدته الغرفة لتنزع الجوارب والحذاء عن قدميه المتعبتين وتضعهما في الشرفة، لتعود وتُخرج جوارب نظيفة من الخزانة، وتضعهما على طرف السرير وتغلق خلفه باب الغرفة.
في الصباح ها هي نراها تحضِّر الفطور وزوجها يراقب تحركها داخل المطبخ الضيق، والذي لا يتسع لأكثر من طباخة وثلاجة صغيرة، أما الطاولة فهي عبارة عن منضدة خشبية عتيقة عُدِّلت من أجل أن تصلح لمائدة طعام.
إن هذا المطبخ هو عالم هذه الأم، فهو المكان الذي تقضي فيه معظم وقتها خاصة أنه يحوي تلك الشرفة المتواضعة، وهي المتنفس الوحيد لها، فكثيرًا من المرات ما كانت تراقب قدوم ابنها من بعيد وهي تضع يدها على قلبها مخافة أن يتعثر أو يسقط ولا يجد من يساعده على النهوض.
وهي ترتشف قهوة الصباح وبالها يسرح بعيدًا يسألها الزوج عن وقوفها الدائم في الشرفة، لترد عليه بأنها سمعت القطة وقد أوقعت إصيص النبتة لتسرع وتنهرها عن ذلك، لكن ردها لم يُقنع الزوج، فهو يعلم أن الولد عاد متأخرًا وكعادته، وزوجه كل ليلة تقف بمحاذاة الشرفة لانتظاره أن يعود إلى البيت، لذلك قطع الحديث بنهوضه وتوديعها وهو ذاهب إلى العمل لتتمنى له يومًا موفقاً.
إن هذه الأم لا يمكننا أن نتخيلها دون تلك الشرفة، فبالإضافة لفوائدها وما تحمله لها من مصادر معلوماتية فإنها أيضاً طالما كانت مصدراً لفرحة بعض عابري السبيل، فقد دأبت على وضع ما تيسر من طعام وشراب في سلة مربوطة بحبل موضوع على بكرة تُنزل من خلالها لمتسول دأب على المرور أسفل العمارة.
في الواقع أعتذر عن نعت هذا الرجل بالمتسول فهو يحمل في جعبته كنوزاً من الأعشاب البرية تبين بعد ذلك أنها أعشابٌ طبية تُنافس حتى الدواء المعد في المخابر، فهو يحاول بيعها بأسعار رمزية من أجل كسب قوته وحين يداهمه وقت الغداء ها هو نراه يُمسك بتلك السلة وهي تحوي ما طبخته السيدة من مرق في إناء محكم الإغلاق، وقطعة كسرة ساخنة تكاد تُحرق أصابع يديه.
لكن دعونا نقترب من هذا الرجل الكادح والذي يأتي بها من فم السبع مثلما يقال، فنرى بنيته الجسدية تنم عن شخص مرَّ عليه الكثير، فالتشققات التي تملأ يديه يُخيل لك أنها أَثْلام حرثٍ تنتظر أن يُزْرَعُ بها حبٌ من شدة بروزها.
أما السبب فهو كثرة مكوثه في الجبال والغابات من أجل البحث عن الأعشاب البرية والتي يبيعها لمن يهمه الأمر، أما وخزات الأشواك فقد جعلت من راحتيه لا تشعران بأي شيء من شدة ما تعوَّد عليها.
لقد اكتسب خبرة لا بأس بها حول هذه الأعشاب، فكل ورقة يراها يعرف مصدرها، وكل عشبة يعلم فوائدها ومضارها، فكان ينصح من يسأل عنها وبكل أمانة.
أما ما تحويه السلة من غداء فنراه وقد نال منه الجوع، وهو فاتح فاه من شدة سخونة المرق الذي أتاه من الطابق الأخير من العمارة في سلة مُحْكمَة التثبيت، أمَّا قرصة الخبز فهي حكاية أخرى، فمن شدة جودتها نراه يحدِّث نفسه بأن يكون طعامها دائمًا خبزًا.
لكن مهلاً فصديقنا بالرغم من أنه متذوق جيد فإن أسنانه لا تسعفه أحيانًا لمضغ الطعام وبالتحديد تلك الكسرة والتي بالرغم من هشاشتها فإنه يعمد لوضعها بين أصابعه ويضغط عليها لتصبح أكثر طراوة ليتمكن من مضغها.
وحين انتهائه ها هي السلة تصعد مرة أخرى وهي تحوي باقة من الأعشاب العطرية من شيح وريحان ونعناع تفوح صاعدة لصاحبتها وهي ممسكة بها وقد قربتها لأنفها لتأخذ نفسًا عميقًا يجعل مقلتيها تلمعان وصدرها يكاد يخرج من مكانه من شدة النشوة التي اعترتها، أما ضيفها فنراه بعد انتهائه من وجبته يُخرج سيجارة عشبية يُدخنها ليُعَدِّلُ بها مزاجه وكأنه سلطان على عرشه.
إن هذه السيدة المُحسنة وبالرغم من حياتها البسيطة فإننا نراها تحمل همّا كالجبل حين تتذكر ابنها وحاله، فهو كثير السهر ليلاً وأحيانًا يعود مع طلوع خيوط الفجر وهي مُشْرَئِبَّةُ العنق تطل من الشرفة تتحسس دخوله للحي إلى أن صادف يومٌ كان عائدًا فيه، وهو يكاد يسقط أرضًا، وآذان الفجر قد علا للصلاة من مئذنة مسجد الحي.
لكن من شدة تعبه حدث ما كانت تخشاه، فقد سقط أرضًا وهي تنظر إليه من فوق لتهمَّ بالنزول لترى أحدهم وهو ممسكٌ به يساعده على النهوض في محاولة لحثه على السير نحو باب العمارة بالرغم من خطوات الشاب المتثاقلة، لتسارع لوضع وشاحٍ على رأسها وتنزل أسفل العمارة وهي تُحَدِّثُ نفسها تُرى من ذلك الرجل الذي ساعد ابنها؟ فالرؤية لا تبدو جيدة لتتفاجأ به عند المدخل بأنه بائع الأعشاب، حينها أحنت رأسها ولم تستطع النظر إليه لكنه نظر في عينيها وأومأ برأسه وكأنه يقول لها لا بأس.
لقد أظهرت إضاءة ردهة العمارة الساطعة ملامحها التي يبدو عليها التعب مع سواد يَلُفُ أسفل عينيها كأنها لوحة رسمت بقلم رصاص، فهي لا يمر عليها يوم إلا وتفرك تلك العينين من شدة تعبهما من السهر وهي تنتظر قدوم ولدها إلى أن أضحتا كحفرتين غائرتين.
ومع ذلك فقد تمكنت من إصعاده إلى الأعلى وإدخاله غرفته لنراها وهي تمسح على وجهه وتغير ثيابه بعد أن استفرغ عليها لتسارع في وضعها في إناء به ماء لشطفهم ونشرهم في الشرفة، وتعود إليه مرة أخرى فتجده يتمتم بكلامٍ غير مفهوم، لكن ما استطاعت أن تلتقطه هو سؤاله عن هوية الشيخ وما قاله له وهو يساعده على النهوض:
- "اللَّه يستر عيبك يا ولدي".
هذا ما سمعته من فم ولدها وهو يعجن في الكلام لتسقط دمعة تحرق جفنيها من شدة حساسيتهما، لكنها في نفس الوقت اعترتها فرحة داخلية وسكينة وهدوء لم تُدرك مصدرهما، أما صدرها فقد أحست به وكأنه خفيف لا ثِقل يحمله ولا تعب مع وجه مبتسم لم نره كذلك منذ مدة بعيدة والسبب هو تلك الكلمات التي قالها الشيخ وكأنها بَلْسَمٌ وُضِعَ عَلَى جُرْحٍ فَطَابَ.
لقد دأب على الوصول مبكرًا كل يوم للمدينة واللحاق بأذان المسجد للصلاة بعدها ومع انبلاج الصبح يعود لتجارته وهو يطوف على الأحياء والعمارات علَّه يجد زبونا لأعشابه، وكان يوميًا يشاهد الشاب وهو عائدٌ من......، ويعلم بأنه ابنها ويدرك جيدًا محنته وهي شرب الخمر.
أجل صديقتنا اليوم هي شخص مبتلى بفلذة كبد مدمن شراب أعانها وأعانه اللَّه على ذلك، لقد كانت كل ليلة تنتظر قدومه لستر عيبه فتنزع عنه ثيابه التي تشرَّبت برائحة الخمر المنبعثة منه، ناهيك عن التي تلطخت بما استفرغه من شدة الثمالة حتى فمه كانت حريصة على وضع راحتها عليه لكيلا يصدر ضجيجاً وهو مترنحٌ ويوقظ والده وإخوته من النوم.
في الواقع قصتنا اليوم تحمل الكثير من العبر التي تشرح الصدر وتجعل الفؤاد يخفق لحكمة اللّه وتدبيره، فمساعدة الشيخ للشاب دُبرت من لدن خبير عليم من أجل ألا يراه أحد من ضعاف النفوس فيسخر منه ومن محنته، والتقاء الأم بالشيخ أيضاً أراده اللَّه لتعلم أن حسن صنيعها معه لم يذهب سدى، فقد دأبت أن تضاعف كمية الطعام وهي تطهو لتحسب حساب نصيبه من الغداء.
لقد كانت الأمانة عنوانه فلم يبع يومًا عشبة إلا وذكر محاسنها ومضارها إضافة لأنه كان ناصحًا أمينًا بخصوص بعض الأعشاب التي تحوي بعضاً من السُمِيَّة والتي كان من الضروري اتخاذ بعض الاحتياطات عند استعمالها.
أما الشاب المُبتلى وبالرغم من محنته فإن أخلاقه في الحي لا غبار عليها، وعيبه لم يره أحد يومًا من الجيران، فقد كان الليل نعم الستَّار له لذلك نرى والدته كل يوم دون كلل وتعب تتحين قدومه ليلاً لتُسارع إلى إصعاده على السلالم، وهي تلتفت حولها مخافة قدوم أحد الجيران، وعلى الرغم من محبتها لولدها فإنها لم تستطع أن تثنيه عمّا يقوم به لتدرك أن اللَّه هو الهادي، لكن مع ذلك فإن تضرعها للّه هو السبيل لنجاة ولدها من محنته.
يقول اللَّه تعالى في محكم تنزيله: "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين". القصص 56
إن تطرقي اليوم لهذه القصة ليس من أجل الحكم على هذا الشاب فهو مُبتلى ووحده اللَّه يعلم متى يُطْلق سراحه كطير كان محجوزًا في قفص ويعود لرشده ويترك الخمر ورفاق جلسات الخمر، ثم إن اللَّه على كل شيء قدير فكم من عاصٍ نام واستيقظ على مغفرة ورحمة، وكم من نفس ضعيفة استلمت بعون اللَّه زمام أمرها واستقوت.
هذه المشاهد الحياتية هي من تجعل الخير باقياً إلى يوم الدين فبالرغم من صديقنا الشاب ومحنته مع الخمر فقد حباه اللَّه بأم حنون ساترة لعيب ابنها، متضرعة للَّه من أجل أن يعفو عنه ويغفر، إضافة ليدها السخية حيث كانت تنزع ما في فمها وتعطيه إلى المحتاج وقد رأينا ذلك في كرمها وتقديمها الطعام لبائع الأعشاب.
أما قطعتا اللحم اللَّتان وضعتهما يومًا في صحن ولدها ونسي أن يسألها عنهما فقد فكانت أحداهما من نصيب بائع الأعشاب، وقد انتظرت آنذاك يومها طوال اليوم ذهابًا وجيئة في الشرفة علّه يحضر، لكن دون جدوى فقد كان يومها متوعكًا ولم يحضر إلى المدينة ولم يبع شيئًا من الأعشاب.
احسنت...واصلي النشر
شكرًا جزيلاً.
مجانة الكريمة قرات جميع ما كتبت وبلا ستثناء فكل كلمة تكتبينها تدل على عبقرية فذة وتمكن من الصياغة الجاذبةالمؤثرة االممتعة .. برجاء قراءة كتاباتي ولا أريد السخرية منها ولكن أريد التوجيه .. شكرا لحضرتك الحبيبة مجانة يمينة .. وطلب أخير من أي الأقطار أنت يا الحبيبة ..؟!!
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.