على مدار التاريخ، شهدت مصر الكثير من الشدائد والمجاعات، سواء بسبب نقص منسوب النيل، أم بالصراعات والنزاعات الداخلية، فما هي أشد وأسوأ مجاعة شهدتها مصر فى التاريخ؟ وفى أي عهد كانت تلك المجاعة؟ وما هي الأهوال والشدائد التى شهدها أبناء البلاد؟
مرت على مصر العديد من الأزمنة السوداء، وذاقت مصر المعاناة المتعددة على مر العصور حتى ظن اهل كل عصر انهم يعيشون في العصر الأكثر قساوة وأنهم قد اقتربوا من نهاية الزمان.
يذكر التاريخ المصري ما من كارثة عرفها العالم إلا وقد مرت على مصر بالرغم من انتشار عصور الإزدهار لفترات كبيرة في تاريخها الممدود.
إن التاريخ المصري هو عبارة عن سلسلة متلاحقة تتبع كل حلقة ازدهار فيها حلقة اخرى من الاضمحلال، وهذا ليس بالعجيب في دولة امتد تاريخها لآلاف السنوات. إلا أن أكثر الكوارث فتكا واعتاها قساوة وأبشعها صورا كانت الشدة المستنصرية التي ضربت مصر في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي.
المستنصر بالله
هو ابو تميم معد المستنصر بالله الفاطمي الذي يمتد نسبه الى الامام علي بن ابي طالب. تسلم مقاليد الحكم في سنة (427 هجريا) وهو ابن السابعة. ونظرا لحداثة سنه وتعاظم شئون الحكم عليه أصبحت أمه واصية عليه واستبدت بزمام الحكم حتى يبلغ أشده ويستطيع أن يتولى أمور الدولة. إلا إن فترة الوصاية هذه قد طالت كثيرًا وامتدت إلى أزمان أبعد من المرجوة، فلقد كانت أمه تتدخل في شئون الحكم حتى بعد توليه أمور الدولة بشكل كامل وكان لهذا تأثيرًا عظيمًا على الدولة وكان أيضًا أحد أسباب الشدة المفزعة.
عاشت مصر في بداية عصره في رخاء شديدا وازدهر الاقتصاد المصري ازدهارا واسعا. وذكر التاريخ أن قصره كان مفتوحا لعامة الشعب، والأدوية متوفرة بالمجان.
أسباب الشدة المستنصرية
- الحرب التي دارت بين الجنود بعضهم ببعض حيث ان الجيش في عهد الدولة الفاطمية كان يتكون من الجنود الأتراك والجنود السودان. فتحالف الاتراك مع البرابره وطردوا الجنود السودان الى الصعيد، وحين وصل السودان الى الصعيد عاثوا في الأرض فسادا وتعمدوا إفساد نظام الري لنشر القحط أكثر مما كان عليه بسبب انخفاض منسوب النيل. أما الأتراك فقد غدروا بالبرابرة وطردوهم من القاهرة إلى وجه بحري. وسيطر الأتراك على القاهرة فنهبوا قصور الخليفة وتقطعت اوصال المحروسة وانقطعت طرق نقل البضائع.
- كانت طبيعة مصر في ذلك الوقت سببا من أسباب الشدة حيث انحسرت مياه النيل وانقطع فيضانه لمدة سبع سنوات عجاف، فتصحرت الأرض، وهلك الحرث والنسل، وبدأت المجاعة.
سنين عجاف
لم يعرف المصريين سنين عجاف كهذه السبعة التي أذلتهم، لم تعد هناك حياة كما يعرفها البشر فلقد فقد المصريين الغلة والقمح واللحوم وغيرها من صنوف الطعام. كانت الشدة المستنصرية ضربًا من ضروب الخيال التي يعجز العقل البشري عن تصديقها، فلقد أكل المصريين الميتات والجيف حتى أصبحت الكلاب والقطط تباع بأسعار باهظة لا يقوى عليها إلا كل ثري. وبعد فترة ليست بكبيرة اختفت الكلاب والقطط من الشوارع، أما عن سعر رغيف الخبز فلقد بلغ خمسة عشر دينارًا وثمن البيضة الواحدة من بيض الدجاج عشرة قراريط أما رواية الماء فقد بلغت سعرها دينارًا. اصبحت الناس تبيع أملاكها مقابل رغيف الخبز أو بعض الدقيق.
ذٌكر في التاريخ أن وزير الدولة ذهب في التحقيق في إحدى الوقائع وعندما خرج لم يجد بغلته فلقد خطفها الناس وأكلوها، أما الطامة الكبرى فهي أن الناس بدأت تأكل بعضها البعض.
ولاول مرة في تاريخ المحروسة أكل المصريون بعضهم. بدأت هذه الفاجعة بعد حادثة البغلة، حيث اعدم الوزير سارقي البغلة وعلقهم على احدى أبواب القاهرة ليكونوا عبرة للآخرين، وعندما حضر الوزير في اليوم التالي لدفن الجثث وجدهم عظاما فقط دون اللحم، فقد اكلهم المصريين من شدة الجوع. يذكر التاريخ أن الناس بدأت تزرع الفخاخ والمخاطيف لإصطياد المارين.
واقعة المرأة
كانت هناك واقعة شهيرة ذكرها لنا هذا التاريخ الأسود عن امرأة باعت عقدًا ثمينًا لها قيمته بحدود الألف دينار لتحصل على القليل من الدقيق لكن الناس نهبوه منها وهي في طريقها إلى المنزل ولم يتبق لها من الدقيق سوى ما يكفي لخبز رغيف واحد، فأخذت هذا الرغيف ووقفت على مكان مرتفع وصاحت بأعلى صوتها (يا أهل القاهرة ادعوا لمولانا المستنصر بالله الذي أسعد الله الناس في أيامه وأعاد عليهم بركات حسن نظره حتى تقومت على هذه القرصة بألف دينار).
وصلت الأزمة إلى المستنصر نفسه، فلم يعد هناك في حظيرته من الدواب شيء، وباع رخام قبور آباءه وأجداده من أجل الحصول على الطعام ووصل الحال إنه أصبح مدينا بحياته لأبنة أحد الفقهاء التي اطعمته تصدُقا برغيفين يوميا. مات ثلث سكان المحروسة وبيعت بيوت ثمينة لشراء أرغفة العيش وطحنت المجاعة بالشعب أكثر وأكثر حتى وصل السيل الزبى.
أقوال المؤرخين
ذكر ابن إياس: أن الناس أكلت الميتة وأخذوا في أكل الأحياء، ووضعت الخطاطيف والكلاليب، لإصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح، وتراجع سكان مصر بأقل معدل في تاريخها.
يقول المقريزي: ظهر الغلاء بمصر واشتد جوع الناس لقلة الأقوات في الأعمال وكثرة الفساد، وأكل الناس الجيفة والميتة، ووقفوا في الطرقات فقتلوا من ظفروا به.
انتهاء الأزمة
انتهت الشدة المستنصرية على يد (الجمالي) الذي اشترط أن يأتي برجاله وأن يفرض سلطته وأن يعيد الأمور إلى نصابها بقوة السلاح وهو ما وافق عليه المستنصر. بعد أن عُين (الجمالي) وزيرًا للدولة عمل على إصلاح نظام الري وقنوات الري التي فسدت وبالتالي اهتم بالزراعة بعد أن قام بمحاربة الجند المتناحرة وطردهم من المحروسة. جعل المحصول كله للفلاحين أول ثلاث سنوات ثم سيجنى في السنة الرابعة.
عُرف عن (الجمالي) إنه كان رجلًا عادلًا مد يده إلى الدولة الفاطمية ونفض من فوقها تراكمات الزمن العصيب وأفاقها من كبوتها. منَّ الله أخيرًا وبعد سبع سنوات عجاف على مصر بأن فاض نهر النيل من جديد وانقشعت هذه الغمة. خلد المصريين ذكرى الوزير (الجمالي) بأن أطلقوا اسمه على أحد أشهر المناطق والأحياء الخالدة في المحروسة وهو حي (الجمالية).
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.