السلاحف صقرية المنقار أو اللجأة البحرية من أجمل الكائنات البحرية وأكثرها تميزًا، وتعد سلاحف مناقر الصقر بمنقارها الفريد وصدفتها المزخرفة، أيقونة آسرة للشعاب المرجانية في أنحاء العالم، لكنها للأسف تحمل لقب (مهددة بالانقراض بشدة Critically Endangered) حسب تصنيف الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN). هذه الكائنات المهاجرة التي تجوب المحيطات الاستوائية وشبه الاستوائية تؤدي دورًا حيويًا في توازن النظم البيئية البحرية.
استكشف في هذا المقال عالم السلاحف صقرية المنقار المثير للاهتمام، بدءًا من توزيعها الجغرافي وموائلها المفضلة، مرورًا بخصائصها البيولوجية الفريدة ونظامها الغذائي المتخصص، وصولًا إلى دورها البيئي المهم، وسنسلط الضوء على التهديدات شديدة الخطر التي دفعتها إلى حافة الانقراض، مثل الصيد الجائر وتغير المناخ وفقدان الموائل، ونستعرض أهمية الجهود المبذولة للحفاظ عليها للأجيال القادمة.
هينا بنا نكتشف عالم السلحفاة صقرية المنقار المدهشة، ونتعرف على موائلها المفضلة في الشعاب المرجانية الضحلة، ونظامها الغذائي المتنوع الذي يشمل الإسفنج السام، نتعمق في الأسباب الرئيسة من الصيد الجائر إلى التغيرات المناخية.
أين تعيش السلاحف صقرية المنقار؟
تنتشر السلاحف صقرية المنقار أو اللجأة البحرية Eretmochelys imbricata في مختلف أنحاء العالم، حيث تعيش في المياه الاستوائية وشبه الاستوائية للمحيط الأطلسي والمحيط الهندي وأيضًا المحيط الهادئ. ولكن تفضل هذه السلاحف سكن السواحل الضحلة، خاصة المناطق الغنية بالشعاب المرجانية والقيعان الصخرية، حيث تجد وفرة من الإسفنج الذي يعد غذاءها الرئيس، كما تعتمد على الشواطئ الرملية النائية والهادئة القريبة للتعشيش فيها.
وتعد هذه السلاحف من الكائنات البحرية المهاجرة؛ لأنها تقطع مسافات طويلة بين مناطق التغذية ومناطق التعشيش، وفي العالم العربي تجدها تعيش في مياه الخليج العربي والبحر الأحمر، فتوجد بكثرة حول جزر جانا وكاران في المملكة العربية السعودية، إضافة إلى محمية مروح البحرية في أبوظبي التي تعد من أهم البيئات الحاضنة لها، وتوجد أيضًا تجمعات مهمة لها في مناطق أخرى بالبحر الأحمر مثل سواحل مصر والسودان.
حقائق مذهلة عن السلاحف صقرية المنقار
تعد سلاحف صقرية المنقار أو كما يطلق عليها اسم (Eretmochelys imbricata) من أكثر أنواع السلاحف البحرية تميزًا، فهي تشتهر بمنقارها الحاد المتشابه مع منقار الصقر، وتستمد اسمها منه، وهذا المنقار مثالي للعثور على مصادر الغذاء في الشقوق والفتحات الصغيرة التي يصعب الوصول إليها في هياكل الشعاب المرجانية، ثم إنها من السلاحف البحرية متوسطة الحجم، إذ يراوح طول درعها الظهري (Carapace) بين 65 و90 سم، ويصل وزنها إلى 150 رطلًا نحو 68 كجم، على الرغم من أن متوسط وزنها عادةً يقارب 80 كجم.
(ملاحظة: يبدو أن هناك تناقضًا في الأرقام الأصلية، 150 رطلًا هي نحو 68 كجم، في حين 80 كجم هي نحو 176 رطلًا، ويراوح وزن البالغين بين 45 و90 كجم تقريبًا).
ما يميزها عن غيرها من السلاحف صدفتها العلوية المسننة ذات الصفائح القرنية المعروفة باسم الحراشف أو الصفائح (Scutes)، المتراكبة مثل قطع القرميد، وهي سمة فريدة لهذا النوع من السلاحف البحرية، ودرعها المزخرفة بألوان جذابة التي تظهر نمطًا غير منتظم من الخطوط الفاتحة والغامقة على خلفية كهرمانية أو بنية.
يكتسب صغارها لونًا بنيًا داكنًا أو لونًا أسود مع تدرجات فاتحة على الحواف، في حين تتخذ السلاحف البالغة منها لونًا بنيًا قاتمًا، أو أخضر زيتونيًّا مزينًا بخطوط وبقع برتقالية وحمراء وصفراء.
بينما رأسها مدبب بفك علوي أطول من السفلي، ما يمنحها مظهرًا شبيهًا بمنقار الصقر، وهو سبب تسميتها كما ذكرنا من قبل، كما تمتلك هذه السلحفاة زوجًا من المخالب على كل زعنفة، ويتميز الذكور عن الإناث بمخالب أطول، وذيول أكثر سماكة تمتد إلى ما بعد حافة الدرع الخلفية، وألوان أكثر إشراقة أثناء موسم التزاوج.
من الحقائق المذهلة عن سلاحف صقرية المنقار أنها تترك آثارًا غير متناسقة على الرمال أثناء زحفها لوضع البيض، بسبب طريقة زحفها غير المنتظمة، فتحرك زعانفها الأمامية والخلفية المتقابلة بالتناوب، على عكس بعض السلاحف الأخرى التي تترك آثارًا متناظرة، كما أن تغذيتها على بعض الكائنات البحرية السامة مثل قناديل البحر، يجعل لحمها سامًّا في بعض الأحيان بسبب تراكم السموم الحيوية (Biotoxins) ما يمثل خطورة عند تناول البشر منها.
تتكاثر سلاحف صقرية المنقار في فصل الصيف، فتخرج الإناث إلى الشواطئ الرملية عادةً ليلًا لتختار مكان العش، ثم تضع الإناث عددًا كبيرًا من البيض قد يصل إلى 200 بيضة في الموسم، مقسمة على أعشاش عدة، بمتوسط 100-140 بيضة لكل عش، وتدفن في الرمال، ويفقس البيض بعد نحو شهرين اعتمادًا على درجة حرارة الرمال، ومن المدهش أيضًا أن درجة الحرارة تحدد جنس النسل وهي ظاهرة تعرف بـ Temperature-Dependent Sex Determination (TSD).. أتتساءل كيف؟
حسنًا سأجيبك، حينما تكون درجات الحرارة أكثر دفئًا فوق 29-30 درجة مئوية تقريبًا ينتج عنها إناث، وعلى العكس درجة الحرارة الأكثر برودة تنتج ذكورًا، يمثل هذا الأمر قلقًا متزايدًا في ظل تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة العالمية، ما قد يؤدي إلى تحيز النسل نحو الإناث.
النظام الغذائي للسلاحف صقرية المنقار.. ماذا تأكل؟
تتميّز السلاحف صقرية المنقار بنظام غذائي متنوع، فهي من الحيوانات القارتة التي تتغذى على كل من الكائنات البحرية والنباتات، وتعتمد في مراحلها الأولى بصفة أساسية على الطحالب والحشائش وكذلك النباتات البحرية والعوالق في المياه المفتوحة، ثم مع بلوغها وانتقالها إلى موائل الشعب المرجانية تصبح الإسفنجيات مصدر غذائها الرئيس، فيمثل 70% إلى 95% من نظامها الغذائي، لا سيما في بعض المناطق مثل البحر الكاريبي. تعرف هذه السلاحف بأنها إسفنجية التغذية (Spongivore).
كما أنه بفضل منقارها الحاد تستطيع هذه السلاحف الوصول إلى الشقوق الصغيرة في الشعاب المرجانية لالتقاط الإسفنج، وعلى الرغم أن بعض أنواع الإسفنج تحتوي مواد سامة وإبر سيليكونية حادة تسمى شويكات (Spicules)، فإن هذه السلاحف قادرة على هضمها دون ضرر بفضل تكيفات فسيولوجية فريدة. إضافة إلى الإسفنج تتغذى السلاحف صقرية المنقار أيضًا على الرخويات والقشريات، وقنافذ البحر، والأسماك الصغيرة، وقناديل البحر، واللاسعات، وشقائق النعمان. ومن المثير للاهتمام أن سلاحف صقرية المنقار تستطيع تناول بعض الكائنات السامة مثل قناديل البحر [وحيوان "رجل الحرب البرتغالي" السام]، إذ تحمي عينيها بإغلاقهما في أثناء التغذية، ويحميها رأسها المدرع من اللدغات السامة.
الأهمية البيئية للسلاحف صقرية المنقار ودورها الحيوي في الشعاب المرجانية
تؤدي هذه السلاحف دورًا بيئيًّا مهمًّا في الحفاظ على صحة الشعاب المرجانية، بسيطرتها على نمو الإسفنج الذي يتنافس مع المرجان على المساحة، ما يسهم في توازن النظام البيئي البحري ويسمح للمرجان بالنمو والازدهار، كما أنها تساعد في الحفاظ على التنوع البيولوجي عن طريق منع أنواع الإسفنج سريعة النمو من السيطرة على الشعاب المرجانية.
لماذا تعد السلاحف صقرية المنقار مهددة بالانقراض بشدة؟ الأخطار والتهديدات
على الرغم من جمالها وأهميتها البيئية؛ فإن سلاحف صقرية المنقار تواجه تهديدات شديدة الخطر مثل الصيد الجائر والتغيرات المناخية، ما جعلها ضمن قائمة الكائنات المهددة بالانقراض بشدة (Critically Endangered) وفقًا للقائمة الحمراء للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN)، ويرجع ذلك أساسًا إلى التأثيرات البشرية، فعلى مدار القرن الماضي قتل ملايين من هذه السلاحف بسبب تجارة أصدافها الفاخرة المعروفة باسم (صدف السلحفاة أو Tortoiseshell) التي كانت مطلوبة منذ العصور القديمة بدءًا من مصر الفرعونية وصولًا إلى اليابان، فتستخدم في صناعة الزينة مثل إطارات النظارات والأدوات الموسيقية والجواهر والأمشاط.
وعلى الرغم من أن التجارة الدولية لأصدافها منعت قانونيًّا في عام 1993 بموجب إدراجها في الملحق الأول من اتفاقية التجارة الدولية بأنواع الحيوانات والنباتات البرية المهددة بالانقراض (CITES)؛ فإنها لا تزال مستمرة في بعض الأسواق السوداء المنتشرة في العالم، خاصة في منطقة البحر الكاريبي وأجزاء من آسيا.
تشير التقديرات إلى انخفاض أعدادها عالميًا بنسبة قد تتجاوز 80% خلال الأجيال الثلاثة الماضية، ويعد التغير المناخي تهديدًا خطيرًا عليها، إذ يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى ابيضاض وتدمير الشعاب المرجانية التي تعد مصدرًا رئيسًا لغذاء السلاحف، وتواجه صغار السلاحف مخاطر عدّة عند عودتها إلى البحر، فتكون عرضة للافتراس من قبل الثعالب والطيور والكلاب والأسماك الكبيرة، ويؤثر ارتفاع مستوى سطح البحر وتزايد العواصف على شواطئ التعشيش.
وتواجه هذه السلاحف تهديدات أخرى مثل الصيد غير القانوني من أجل لحومها وبيضها الذي لا يزال يُستهلك في كثير من الدول، على الرغم من الحماية الدولية، وأيضًا تعلق بشكل عرضي (Bycatch) في شباك الصيد التجارية والحرفية المهجورة أو المستخدمة، وكذلك تتعرض لفقدان الموائل الطبيعية الخاصة بها، بسبب التوسع العمراني والتنمية الساحلية والتلوث الضوئي الذي يضلل الصغار الفاقسة، ما يقلص أماكن التعشيش لها. التلوث البحري، بما في ذلك البلاستيك والمواد الكيميائية، يمثل خطرًا إضافيًا.
كل هذه العوامل مجتمعة أسهمت في انخفاض أعدادها بدرجة كبيرة، وجعلت السلاحف صقرية المنقار واحدة من أكثر الكائنات البحرية المهددة بالانقراض، ما يستدعي جهودًا كبيرة للحفاظ عليها وحمايتها من الانقراض.
ما جهود الحماية والمحافظة على السلاحف صقرية المنقار؟
نظرًا لوضعها الحرج، تُبذل جهود دولية ومحلية لحماية السلاحف صقرية المنقار وموائلها. تشمل هذه الجهود:
- الحماية القانونية: إدراجها في الملحق الأول لـ CITES وتطبيق قوانين وطنية صارمة لمنع صيدها والاتجار بها وبمنتجاتها.
- حماية مواقع التعشيش: تحديد ومراقبة وحماية الشواطئ الهامة للتعشيش من الإزعاج والتنمية، ونقل الأعشاش المهددة إذا لزم الأمر.
- الحد من الصيد العرضي: تطوير وتنفيذ استخدام معدات صيد أكثر انتقائية، مثل "أجهزة استبعاد السلاحف" (Turtle Excluder Devices - TEDs) في شباك الجر، وتعزيز الممارسات المستدامة في الصيد.
- مكافحة التلوث: العمل على تقليل التلوث البحري، وخاصة البلاستيك، الذي يمكن أن تبتلعه السلاحف أو تعلق به.
- حماية الشعاب المرجانية: جهود الحفاظ على الشعاب المرجانية واستعادة صحتها ضرورية لتوفير الغذاء والمأوى لهذه السلاحف.
- التوعية المجتمعية: زيادة الوعي العام بأهمية السلاحف البحرية والتهديدات التي تواجهها، وتشجيع المجتمعات المحلية على المشاركة في جهود الحماية.
- الأبحاث والمراقبة: إجراء المزيد من الأبحاث لفهم سلوكياتها وهجرتها ومتطلباتها البيئية، ومراقبة أعدادها لتقييم فعالية جهود الحفظ.
في الختام، تقف السلاحف صقرية المنقار شاهدًا حيًّا على جمال التنوع البيولوجي البحري وأهميته، وكذلك على هشاشة هذا التنوع أمام الأنشطة البشرية المدمرة، ودورها في الحفاظ على صحة الشعاب المرجانية لا يُقدر بثمن، ولكن مستقبلها معلق بخيط رفيع بسبب التهديدات المتزايدة. إن حماية هذا النوع المُدرج في الملحق الأول لاتفاقية CITES والذي يحظر التجارة الدولية به، ليست فقط مسؤولية بيئية، بل هي واجب أخلاقي يتطلب تضافر الجهود العالمية، بدءًا من مكافحة الصيد غير المشروع والتجارة غير القانونية، وصولًا إلى التخفيف من آثار تغير المناخ وحماية مواطن تعشيشها، فلنعمل معًا لضمان بقاء هذه الكائنات الرائعة تزين محيطاتنا لأجيال قادمة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.