السعادة غاية كل إنسان.. فهل أنت سعيد؟

هل أنت سعيد؟ سؤال لا يعرف جوابَه إلّا أنت، ولكن دعني أنوبُ عنك في الإجابة: غالبًا لا، لستَ سعيدًا، أليس كذلك؟

قد يعجبك أيضًا

!5 تعديلات بسيطة تغير ملامح شقتك بالكامل

 

السعي إلى السعادة

لا يزال النّاس يسعون إلى السّعادة، وهم لا يعرفون معناها! ولا ينفكّون يستقصونَ طرائق تُنئيهم عنها، وهم يحسبون أنّهم يُحسنون صنعًا.

ولا يفتأ بعضهم ينغمس في عادات معيّنة لعلّها تكون سببًا في نيل وطَرِهم منها.. فلا يجدون إلّا سرابًا بقيعة يحسبه الظّمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئًا، ويضربون أكباد السّعي الحثيثِ، لكنْ فيما يَزجُّ بهم في أرض الأتراح والكُلوم.

أمّا أن يسلكوا سُبلها الحقيقيّة، ويقتَفوا من الآثار ما يؤدي إليها، فلا، وإنّما مَثَلُ الواحد منهم في ذلك؛ كقولِ الله تعالى: كباسطِ كفّيه إلى الماء ليبلغَ فاهُ وما هو ببالغه فأنّى للظمآن أن يرتوي بمجرد أن يبسط كفيه للماء، وأنّى لهؤلاء التّناوش من مكانٍ بعيدٍ

قد يعجبك أيضًا عادات وأفعال هامة يجب فعلها للحصول على شعور السعادة

هل أنت سعيد؟ 

سؤال يحتاج إلى فضل تأمل، وكثير بحث وتدبّر، وفي رأيي أنّ ثمّة لمحتين ينبغي الالتفات إليهما:

- أن يَعرِفَ المسؤولُ معنى السّعادة الحقيقيّة بالنّسبة له؛ لأنّ الحكم على شيءٍ فرعٌ عن تصوّره، فلن تجد جوابًا لسؤالٍ لا تعرف معناه.

إنّ السّعادة غايةٌ لها وسائل، وسلعةٌ يقابلها ثمن، أعني أنّها لا تحدث من تلقاء نفسها، بل ينبغي أن تدفع ثمنها بادئ ذي بدء، وألّا تخبط خبط العشواء بل والعمياء أحيانًا في طلبها

والآن، هَلمَّ بنا إلى الوقوف على بعض التّفاصيل، والخوض في بعض مهام السّعادة، والغوص في كثير من معانيها، وما تحمله في طياتها من ميادينَ واسعة لا منتهى لها

تعريف السعادة

وأجمعُ تعريفٍ ألفيته للسّعادة؛ كان تعريفًا قرأتُه في كتابٍ بعنوان: "شارعِ النجاح". وقد عَرَّف السّعادةَ على أنّها "اجتماع النّشوة مع الرّضا".

والنّشوة هي اللّذة والمتعة الّتي تصاحب الحَدَث، والرّضا هو انسجام ملكات النّفس، وسلامة دواعي الصّدر، بيدَ أنّ هذين الشّعورين قلَّ أن يجتمعا، ولذلك فإنّ السّعادة الدّائمة في هذه الحياة هي ضربٌ من الوهم.

لكن ذلك لا يعني أنّنا خُلقنا لنعانيَ ونتألّم فحسب، بل إنّ تحقيقَ أحدِ طرفي المعادلة هو غاية وحده، والنّجاحَ في بلوغ النّشوة أو الرّضا هو نجاح وحده

هل أنت سعيد؟ سؤال يكاد لم يكن قد طرق عقلك قبل ذلك، وعساه إن فعل؛ فإنّك تجتهد في صرف هذا المارد الشّيطانيّ عن نفسك والتّعوّذ بالله من رجس الأوهام!

لكنّ السّعادة ليست وهمًا، والسّعي إليها ليس من حبائل الشّيطان، والتّفكير في حالك ليس من ذاتك السّفليّة، بل إنّ السّعادة هي الغاية الكبرى الّتي ليس من ورائها غاية، ولذا تمامُها لا يكون إلّا في الجنة.

لكن لا تحسبنَّ أنّ ذلك يعني أنّه لا سعادةَ ألبتةَ في الدّنيا، لقد نفى ربُّنا ذلك الفهمَ المتهافتَ حين قال: من عملَ صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فَلنُحيينَّه حياة طيّبة

إنّ انفرادَ الجنّة بالسّعادة المطلقة لا ينبغي أن يكون عذرًا نحتجّ به للعزوف عن طلب القليل منها، أو الحصول على أحد شطريها، أو التّنعمّ بالرّضا أحيانًا، والنّشوة تارة أخرى

هل أنت سعيد؟ عندما تخلد إلى فراشك هل تشعر بالسّعادة؟ عندما تغلق جفنيك شارعًا في الوسن هل تكون راضيًا؟

عندما تضَّجع على فراش النّوم، أيكونُ ذلك بهدف إراحة جسدك؟ أم إراحة نفسك المثقلة بالأحزان والجراح؟

هل تكتفي بأن تستلّ جسدك من كظيظ الصّخب ووعثاء العمل، أم أنّك تستلُّ روحك أيضًا من جحيم العيش ونيران الأسى والحزن؟ 

عندما تنهض من سباتك.. أُتراك تقوم طَيِّب النّفس نشيطًا؟ أم خبيثَ النّفس كسلانًا؟ أُتراك تقوم عن عزمٍ مشحوذ، ولَهَفٍ لا منقطعٍ ولا مجذوذ؟ أم عن تثاقلِ من جثا على صدره أضغاث الكوابيس؟

قد يعجبك أيضًا كيف تجد الشخصية الإنطوائية السعادة؟

الإجابة غير واضحة 

فكّر في نفسك، راجعها السّؤال والجواب، سلها بإلحاح: هل أنا سعيد؟ فإن أَبَت إلّا المراوغةَ والحيدةَ عن الجواب، فأعِده عليها مرارًا.

إذا كنت تهرب من مواجهة نفسك بالحقيقة؛ فتأكّد أنّ ذلك لن يغيّر حقائق الأمور، إنّ المريض الّذي يغضّ الطّرفَ عن كونه مريضًا؛ لن يزيدَه التّغافلُ إلّا مرضًا.

إن الافتقارَ إلى السّعادة بالكلّيّة، والعيش في الكآبة لهو المرض العضال والدّاء المبين، ولن يتغيّر لك من الأمر شيءٌ؛ حتّى تُحدثَ أنت تغييرًا.

تذكّر قانونَ السّبب والنّتيجة، إن كنتَ تعيسًا فهذه نتيجةٌ قد سعيتَ إليها وبذلتَ أسبابها، وإن رُمتَ تعكس الأمور؛ فعليك أن تتّخذ إلى السّعادة سَرَبًا، وإلى الرّضا والنّشوة سَببًا، إن ظَللتَ ترمِ القدر بسهام الظّلم؛ فلن تلبث أن ترتدّ سهامك عليك فتبوء محزونًا مخذولًا

قد يعجبك أيضًا مفتاح السعادة المستمرة

 كيف تكون سعيدًا؟

- النّجاح: عندما تنجح ستكون راضيًا، وعندما ترضى فقد حقّقتَ أحد طرفي معادلة السّعادة؛ لأنّ النّجاح -باختصارٍ- هو إدراكُ الغايات المنشودة، ومتى أدرَكتَ ما تصبو إليه؛ ستشعرُ بالرّضا، علاوة على ما سوف يتدفّق في عروقك من هرمونات النّشوة، وما سيغمُر روحك من فيوض الطّمأنينة.

- تمتّع بالتّفاصيل: وعندما تفعل، فقد حقّقتَ الشّطر الثّاني من المعادلة، وسنناقشُ هذه النّقطةَ في عنوان مستقلّ

- نفّذ الشّروط المذكورة في الآية السّابقة.

- تمتع بالتّفاصيل البسيطة

كُن سعيدًا وأنت تنظر إلى مشهد الشّروق والغروب، وأنت ترقب أطفالَك يبادلونَك الابتسام والضّحكات، وأنت تشعر بدفء الزّلفى من أحبابك؛ تذهب ببرودة أناملهم الّتي تعانق جسدك

عندما تنشر الشّمس أشعتها اللّامعة على صفحة الماء الزّبرجديّة، فتَضمخُ ماءَها بألوانها المتلألئة فلن يضرَّك أن تستمتع بهذا المشهد.

تمتّع بكونك مُعافًى في بدنك، سليمَ الخَلقِ والبنيان، إنّ أموال الدّنيا مُجتمعة لا تشتري السّعادة، المال مهمّ حقًا، لأنّه يؤلّف لك بين الفرص المؤدّية للسّعادة، لكنّه ليس هي؛ لأنّ السّعادة أمر قلبيّ بحت، وشعور نفسيّ خالص،هذا شيء.

والأمر الآخر أنّ الغنى الفائضَ عن الحاجة لا يمُثّلُ كثير نفع، فلن تأكل أكثر ممّا تأكل؛ لأنّك غني، ولن تشرب أكثر من حاجتك لأنّ لديك فائضًا ماليًّا، وذلك لأنّ وسائل استقبال المتعة لدى الإنسان محدودة، وإن تعدّدت المتع ذاتها.

ربّما يوفر لك المالُ قدرةً على أن تسافر حول العالم، لكن عمرك مهما طال فهو محدود، ويمكنك أن تتمتّع بالكثير من متع الأغنياء وإن لم تكن على قدر غناهم.

تمتّع بعملك وإنجازك ورسالتك، تمتّع بكونك صاحبَ رسالةٍ وذا أهدافٍ سامية، تمتّع برحلتك الحياتيّة حتّى قبل أن تبلغَ أهدافَك

قد يعجبك أيضًا ما هي أسرار السعادة؟

السعادة في العمل والمتعة

يوجد مَن ينشغل بالعمل على إمتاع نفسه؛ عن إمتاعها! هل تريد مثالًا؟ أعرف شخصيًّا أطباء يصلون اللّيلَ بالنّهار من أجل جمع المال، حتّى إذا اتّفق أن دخلتَ على هذا الطّبيب كأحد المرضى؛ فإنّك على الأغلب ستراه يقاوم النّعاس ويكابد النّوم، من أجل أن يقدر على فتح عينيه حتّى يستطيع المواصلة.

ولا يزال ذلك حاله حتّى ينقضي جلّ عمره وهو يحسب أنّه يحسن صنعًا، إذا سألته عن سبب ما يفعله بنفسه، فإن كان صادقًا، سيقول: لجمع المزيد من المال..

فإن سألته: ولمَ تريد جمعَ المزيد منه؟ سيقول: لإمتاع نفسي وأهلي.

لكنّ الصّدمة الّتي يغضّ الطّرفَ عنها هي أنّه لم يستمتع إلى هذه اللّحظة، فيؤخّر متعته إلى نهاية الطّريق، ويتناسى أنّ المتعةَ ليست في نهاية الطّريق وإنّما في أثنائه وخِلالِه، ربما تكون المتعة في ناظره مقصورة على جمع المال

الاستمتاع لا ينبغي أن ينصبّ على الأمور الكبيرة فحسب، بل على الأشياء الصّغيرة أيضًا، لماذا لا تستمتع أثناء الرّحلة بما تمتلكه بالفعل؟

أليس لديك حياة وشباب وصحّة وطاقة؟ أليس لديك زوجة جميلة تعتني بك؟ أليس لديك أطفال صغار يلعبون حولك ويتجاوبونَ الابتسام معك؟

لماذا ننتظر أمورًا معيّنة لتحدث حتّى نشعر بالسّعادة؟ فمنا من يقول مثلًا سوف أصبح سعيدًا عندما أكون غنيًّا، أو عندما أتزوّج من فلانة أو غيرها؟

أليس يعني ذلك -بوجه من الوجوه- أنّك ستظلّ تعيسًا وشقيًّا حتّى يحدث هذا الشّيء؟ 

أو من يقول سأحصل على السَّعادة المنشودة عندما أمتلك سيارة (بي إم دبليو) أو (شاليه) في مكان سياحيٍّ فاخر، أو عندما أحصل على الدكتوراه؟

ولكن هب أنَّه لم يكُنْ مُقدَّرًا لك الحصولُ على هذه الأشياء قط؟ هل تؤجِّل الشُّعورَ بالسَّعادة إلى حينٍ قد لا يأتي أبدًا؟ 

ألم تسمع قول النبيّ -صلّى الله عليه وسلم-: "من أصبح معافىً في بدنه، آمنًا في سِربه، عنده قوتُ يومه؛ فكأنَّما حِيزَت له الدّنيا بحذافيرها"؟

فهل تعلم أنّ الشّخص الّذي لا يشعر بالسّعادة وإن حيزت له الدّنيا بحذافيرها؛ فإنّه لن يشعر بها أبدًا؟! فالأصل أنّ ما زاد عن حدّ الكفاية؛ لا يمثل كبير معنى.

يقول بيل جيتس: إنَّ أعلى مستوًى من الشّعور بالسّعادة حقّقه عندما وصل إلى المليون الأوّلى، وكلُّ مالٍ حصَّله بعد ذلك لم يرفع من هذا المستوى شيئًا

الصّواب ألّا تُرجئَ السّعادةَ حتّى تصل إلى أهدافك، ولكن أن تشعرها وأنت لم تزل في الخطوات الأولى في رحلة النّجاح، فالأمور الماديّة؛ وإن كانت تسهم في تحقيق قدر كبير من الإشباع المعنويّ والنّفسيّ؛ إلّا أنّ الأصل أنّ السّعادة الحقيقيّة هي شعور نفسيّ داخليّ

قد يعجبك أيضًا ٧ ألوان لصبغ الحياة الزوجية بالسعادة

 مفارقة الاستمتاع بالمشقّة

ولعلّك تتساءل عن السّرّ في هذه المفارقة، كيف يكون الطّريق المفروش بالأشواك المحفوف بالمخاطر؛ مُشبعًا بالمتعة؟ والجواب عن هذه المفارقة بسيط جدًّا، وتعزى هذه البساطة للأمور الآتية:

- إنّ الانسجام بين الرُّؤية والفعل يحقّق نوعًا من الانسجام النّفسيّ المنوط بإدخال المتعة.

الشّعور بالإنجاز المتأتّي عند النّجاحات الصّغيرة المتتالية سبب للتمتّع.

إنّ الخيالَ المتقدّم على تحقيق الهدف؛ يجعل صاحبه يعايشُ المتعةَ ويخالطُ شغافَ الفؤاد بمتعة مقاربة، تابع النّقطة التّالية..

إنَّ بلوغ الهدف الكبير يؤدّي إلى جمع السّعادة ووضعها بين يديك، لماذا تسعى إلى هدف كبير مع علمك أنّ ثمنه عظيم والمجهود الّذي يحتاجه خارق؟

لأنّك ترى في مخيّلتك مشهد النّهاية، لماذا يصبر الإنسان على البلاء ويُجهد نفسه في الطّاعة؟

لنفس السّبب؛ مشهد النّهاية الّذي قال عنه النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: يؤتى بأشقى أهل الأرض فيغمسُ غمسة في الجنّة فيُقسم أنّه ما رأى شقاء قط ولا عهد بؤسًا قط.

فاستحضارُ مشهد النّهاية على الدّوام يصاحبه شعور بالسّعادة على الرّغم من وعورة الطّريق، لماذا جعل الله عزّ وجلّ الصّلاة كبيرة أو ثقيلة على كلّ النّاس ما عدا الخاشعين؟

لأنّ هؤلاء الخاشعين وحدهم هم من يظنّون أنّهم ملاقوا ربهم وأنّهم إليه راجعون

يقول اللّورد تشيستر فيلد: "اعرِف القيمة الحقيقيّة للوقت، ولا تدَع لحظةً تمرّ دون أن تنتهزَها وتستمتعَ بها، لا تُفسِح الطّريق أمام الكسل والخمول، ولا تؤجّل عملَ اليوم إلى الغد". 

قد يعجبك أيضًا هل الشك يحرم الإنسان من سعادته؟ وما هو الدافع وراء الحياة؟

استقطع أوقاتًا للتّرفيه

إنّ التّمتّع بالرّحلة إلى النّجاح لا يقتصر فقط على ما سبق، ولكن يعني أيضًا أن تشحذ منشار العمل والعزيمة بين الفينة والفينة، يعني أن تستقطع من حياتك أوقاتًا للرَّاحة والاستمتاع، يعني أن تُغدقَ بالعطاء والهدايا والجوائز على نفسك كلّما قطعت من النّجاح شوطًا

إنّ المتعة الحاصلة في طريق النجاح ليست قاصرة على الشّعور بالإنجاز، جيّد أن تستمتع بإنجازاتك، لكن تذكّر أن هذه الإنجازات ليست إلّا إنجازاتٍ ماديّة؛ إن خلت من الجانب الرّوحيّ؛ فليس لها كبير نفع.

لا تكن كالبخيل الّذي أنفق حياته في جمع المال لا ليستمتع به حال حياته ولكن ليتركه لورثته، ولا شيء في ذلك، فــ  "إنكَ إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفّفون النّاس" كما قال النبي -صلّى الله عليه وسلّم-.

لكن المشكلة أنّك لا تفعل ذلك سوى بعد مماتك، بل تكون حريصًا غاية الحرص على التّقتير عليهم وعلى نفسك، ما قيمة المال عندئذ؟

ما فائدة المجهود العملاق الّذي تنفقه على تحصيله؟ ما معنى أن تُفنيَ عمرَك في طلب ما لا تستمتع بتحصيله؟

يقول النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في سؤالٍ استنكاريّ لأصحابه: أيّكم مالُ وارثِه أحبُّ إليه من ماله؟ فقالوا: ما مِنّا من أحد يا رسول الله إلا وماله أحبّ إليه من مال وارثه، فقال صلى الله عليه وسلم: فمالُك ما قدمتَ، ومالُ وارثِك ما أخَّرتَ

قد يعجبك أيضًا كيف تحصل على السعادة في العلاقات

لا تُرجئ المتعة بإطلاق 

إنّ إرجاءَ المتعة بإطلاق؛ يشبه الشّمعة الّتي تحرق نفسها لتضيء للآخرين ثمّ لا تفتأ أن تصير رمادًا! ويشبه أيضًا ما تفعله دودة القزّ الّتي تُتعب نفسها في نسج الحرير؛ ثمّ تموت عالقة وسطَ ما نسجت من الخيوط! يقول البُستيّ:

ألم تـــرَ أنّ المرء طول حياتـه               معنّـــى بأمرٍ لا يَــــــزال يعالجـُه

 كَــدُودٍ غدا للقزّ ينسج دائبًا               ويهلك غمًّا وسطَ ما هو ناسِجُه

في كتابه "الثّروة التّلقائيّة" يقول المؤلف ما معناه: إنّه يمكنك أن تعيش في مستوى مقارب من الأثرياء وأنت لم تُحقّق الثّراء بعد، والسّرّ في ذلك أنّ أغلب المتع الكبيرة في هذه الحياة لا تحتاج إلى الكثير من المال، والأصل أنّ الأشياء المادّيّة باهظة الكلفة لا تؤدّي إلى مزيد من الإشباع.

وفي الفصول الأخيرة من الكتاب يضيف المؤلّف: إنّه يوجد من لا يشعر بالإشباع والسّعادة حتّى بعد أن يصل إلى كلّ ما يريد من الثّراء وربّما يرجع ذلك إلى سوء تقدير الأمور.

كأن يظنّ الشّخص أنّ المال هو جماع السعادة وغاية الأرب في نيل الطّلب، وعندما يصل إليه يكتشف أنّ كلّ ما وصل إليه؛ يمكن لشخص عاديّ لا يملك عشر معشار ممّا يملك؛ أن يحققه، وعندئذ يسقط في يديه، لأنّه وجد أنّ غايته الأسمى من جمع المال لم تتحقّق له، فأيّ فائدة للمال عندئذ؟ 

هذه ليست دعوة إلى القعود عن السّعي في أهداف حدّدت سلفًا، كما أنّها ليست دعوة للاستغراق في الاستمتاع والانشغال به عن السّعي في دروب الحياة وشعابها، بل كلّ ما أريد قولَه إنّه ينبغي عليك أن تكون سعيدًا ومتَمتِّعًا بينما ما زلتَ بعد في طور السّير في هذه الشّعاب.

تذكّر هذه القاعدة؛ المتعة والسّعادة قرينة الرّحلة وليست غايتَها، وإن كان النّجاح في هذه الرّحلة بدوره سوف يفتحُ ينابيعَ جديدةً من السّعادة، وروافد أخرى من المتعة

فهلا أعطيك أسبابًا منطقيّة لعدم إرجاء الاستمتاع إلى مرحلة جني الثّمار وحسب؟ نعم سأفعل:

- قد يتأخّر جني الثّمار جدًّا، وقد لا يأتي أبدًا، معنى أن تفصل بين العمل الّذي تطمح من ورائه إلى المتعة والسّعادة، وبين المتعة نفسها ريثما تصل إلى هذه النّتائج؛ أنّك ستحيا غالب عمرك في مشقّة محضة تخلو من المتعة والسّعادة، وسوف تفقد الحافز على العمل والإنتاجيّة

- إنّ الاستمتاع بثمرة الرّحلة قصير نسبيًّا 

قد يعجبك أيضًا تشعر بالسعادة حقا عندما تراها في وجوه الآخرين

كن متمتعًا لأنّك صاحب رسالة أيضًا

الانطلاق في رحلة الحياة وأنت تحمل على عاتقك رسالة سامية، سوف يحقق لك السّعادة والمتعة وأنت في ثنايا سعيك، بل وحتّى إن شاء اللهُ ألّا تصلَ إلى غايتك أصلًا! وسرّ الأمر؛ أنّ الإنسان جُبل على البحث عن معنى وغاية، وكون الإنسان يحيا برسالة يحملها وأهداف يسير نحوها، يعطيه هذا الشّعور المتوغّل في أعماقه بالمعنى والغاية، ويرفع من احترامه لنفسه وتقديره الذّاتيّ

ناهيك عن ذلك الشّعور الرّائع الّذي ينتابك عند بلوغ الغاية، الغامر لأكنافِ نفسك إن كنت صاحب رسالة، كأن تكونَ تلك الرّسالة هي إسعاد نفسك والآخرين من خلال الإنفاق بالمال والسّعي في حوائجهم.

فعند ذلك لن ينطفئ سراج سعادتك، ولن يخبو بريق استمتاعك، لأنّك سوف تنعم بالعيش في جنّة لن تبغيَ عنها حولًا من الرّضا والطّمأنينة والسّلام

هذا يخصّ الكلام عن حالتك في نهاية الرّحلة، ولكنّك تستطيع أن تزاول العيش مستمتعًا بحمل هذه الرّسالة حتّى قبل بلوغ الغاية، أرجو أن تكونَ قد فهمتَ المعنى وراء الاستمتاع بالرّحلة

وفوق كلّ ما سلف؛ فإنّ الاستمتاع بالرّحلة ينبغي أن ينصرف إلى الاستمتاع بالخطوات الّتي تخطوها نحو غايتك، بالعمل الّذي تؤدّيه في كلّ لحظة من حياتك.

إنّ المتعة لا تعني بحال أن تتوقّف عن العمل وتمارس الاستجمام الكامل والخمول الدّائم، عندما تحقّق جميع أهدافك يمكنك أن تتقاعد بشكل كامل عن العمل؛ لأنّك ما عُدتَ في حاجة إليه، لكن هل تظنّ أنّ هذا سوف يضفي على حياتك مزيدًا من المتعة؟ 

إن كان الأمر كذلك، فأخبرني لماذا يعدّ الأشخاص الّذين خرجوا على المعاش بعد أن تجاوزوا السّتين عامًا؛ هم الطّائفةَ الأكثرَ عُرضة للاكتئاب النّفسيّ الجسيم؟

البقاء دون عمل والفراغ التّام لا يحقّق سعادة أو استمتاعًا، بل العكس هو الصّحيح، فالعمل هو ما يحقّق ذلك، وعندما ذكرنا أنّ النّجاح منهج حياة؛ قلنا إنّه لا ينتهي بتحقيق الغايات، بل كلّما بلغت غاية انتقلت إلى الّتي تليها، ودون ذلك فلا طعم للحياة

لا تحسبنّ أنّ الاستمتاع بجمال الطّبيعة يحتاج إلى إنفاق الكثير من المال، بل ولا القليل منه، فهذه هي الشّمس تتألّق في عنان السّماء في كلّ يوم على كلّ النّاس، دون أن تحابي غنيًّا، أو تضنَّ على فقير.

وتسطع أَلَقًا كأنّها قرص من العقيان الخالص، وتلك السّماء كالسّقف المحفوظ تحوي نجومًا وبروجًا في نسيج محبوك، بلا تفاوت في الجمال ولا فطور في الصنعة، وهذه الأنهار تجري من تحت أقدامنا.

وهذه أطيارٌ تصدح في اليوم المشمس بأطيب التّغريد، وأعذب الأناشيد وهي ترفرف بأجنحتها فرحًا وبشرى في عنان السماء، وتصطفّ في جوّها كحبات اللّؤلؤ المنضود، والنّخل في جوّ الفضاء باسقات في شموخ وعزّة محملة بِقنوانِها المتلألئة دانيةً بِجناها المتدلّية.

الخاتمة

السّعادة غاية في ذاتها، ونتيجة للأخذِ بأسبابها، وسلعةٌ غاليةٌ ينبغي أن تكونَ مُستعدًّا لدفع ثمنِها إن كنتَ صادقًا في طلبها.

عليك أن تتّخذ لنفسك أهدافًا سامقة، وأن تبذل فيها قُصارى جهدك، مُستشعرًا كلّ معاني السّعادة والقوّة لأنّك صاحب رسالة، تحقّق أهدافك وتنعم بجني ثمارها، وتتمتّع بالرّضا في كلّ خطوة تقرّبك منها.

 قد يعجبك أيضًا

-طمأنينة الإنسان...سلاح البشر السري

-12 عنصر مهم لجلب السعادة إلى حياتك

طبيب بشري اخصائي نساء وتوليد، ومؤلف في التنمية الذاتية والأدب والإسلام

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

مقالات ذات صلة
يونيو 9, 2023, 5:02 ص - جمال عبدالرحمن قائد فرحان
يونيو 8, 2023, 1:59 م - مجانة يمينة
يونيو 7, 2023, 5:52 م - جمال عبدالرحمن قائد فرحان
يونيو 7, 2023, 3:49 م - أحمد دحو أحمد
يونيو 6, 2023, 8:04 م - ياسر عبدالحميد محمود سلطان
يونيو 6, 2023, 4:54 م - زبيدة محمد علي شعب
يونيو 5, 2023, 7:43 م - رضوان عبدالله سعد الصغير
يونيو 5, 2023, 6:05 م - عايدة عمار فرحات
يونيو 5, 2023, 4:14 م - محمد عبد القادر نوفل
يونيو 5, 2023, 10:47 ص - سيد علي عبد الرشيد
يونيو 4, 2023, 6:38 م - اسامه غندور جريس منصور
يونيو 4, 2023, 12:03 م - زبيدة محمد علي شعب
يونيو 3, 2023, 6:46 م - اسامه غندور جريس منصور
يونيو 3, 2023, 2:52 م - محمد عبد القادر نوفل
يونيو 3, 2023, 12:19 م - أميرة أبو ماضي
يونيو 3, 2023, 9:56 ص - جمال عبدالرحمن قائد فرحان
يونيو 2, 2023, 8:07 م - رضوان عبدالله سعد الصغير
يونيو 2, 2023, 9:27 ص - جمال عبدالرحمن قائد فرحان
يونيو 1, 2023, 7:31 م - اسامه غندور جريس منصور
يونيو 1, 2023, 7:07 ص - جوَّك فنون
مايو 31, 2023, 5:57 م - عبدالحليم عبدالرحمن
مايو 31, 2023, 1:53 م - أمين عبدالقادر لطف أحمد
مايو 31, 2023, 10:41 ص - داليفان قضيب البان
مايو 30, 2023, 5:51 م - رضوان عبدالله سعد الصغير
مايو 30, 2023, 5:36 م - رضوان عبدالله سعد الصغير
مايو 29, 2023, 12:02 م - محمد عصام سيد فهيم
مايو 29, 2023, 10:50 ص - اسامه غندور جريس منصور
مايو 29, 2023, 8:26 ص - أيسل حسن قيطة
مايو 29, 2023, 8:01 ص - أيسل حسن قيطة
مايو 28, 2023, 12:00 م - ياسر إسماعيل منيسي
مايو 27, 2023, 8:19 م - محمد عصام سيد فهيم
مايو 26, 2023, 7:22 م - عصام أحمد عبدالله عياد
مايو 24, 2023, 3:02 م - محمد أمين العجيلي
مايو 23, 2023, 6:10 م - جمال عبدالرحمن قائد فرحان
مايو 22, 2023, 11:22 ص - محمديزن الياسين
مايو 21, 2023, 4:42 م - ياسر عبدالحميد محمود سلطان
مايو 21, 2023, 9:30 ص - أميرة محمد برغوث
مايو 20, 2023, 9:43 ص - ياسر إسماعيل منيسي
مايو 19, 2023, 7:34 م - عايدة عمار فرحات
مايو 19, 2023, 1:20 م - محمد عبد القادر نوفل
مايو 18, 2023, 10:37 ص - منة الله صبرة القاسمي
مايو 17, 2023, 9:29 ص - أميرة محمد برغوث
مايو 17, 2023, 7:53 ص - احمد صبري محمد
مايو 16, 2023, 3:50 م - سارة كمال سماني
مايو 16, 2023, 9:58 ص - ايمان شعبان عبدالرحمن
مايو 15, 2023, 8:39 م - احمد عزت عبد الحميد محيى الدين
مايو 15, 2023, 8:26 م - مايكل سليمان
مايو 14, 2023, 12:39 م - عبدالمجيد ايت اباعمر
مايو 14, 2023, 7:11 ص - جمال عبدالرحمن قائد فرحان
مايو 13, 2023, 9:42 ص - عز الدين محمد رشاد
مايو 10, 2023, 8:14 م - سفيان خمقاني
مايو 10, 2023, 7:54 م - عاطف محمد أبو المجد محمد
مايو 10, 2023, 10:04 ص - جمال عبدالرحمن قائد فرحان
مايو 9, 2023, 1:59 م - جمال عبدالرحمن قائد فرحان
مايو 8, 2023, 2:56 م - سيد علي عبد الرشيد
مايو 8, 2023, 8:39 ص - محمد عبد القادر نوفل
مايو 7, 2023, 4:24 م - عايدة عمار فرحات
مايو 4, 2023, 7:47 م - جمال عبدالرحمن قائد فرحان
نبذة عن الكاتب

طبيب بشري اخصائي نساء وتوليد، ومؤلف في التنمية الذاتية والأدب والإسلام