في أعماق النفس البشرية تكمن متناقضات تتراقص بين الظل والنور، بين الجمال والقبح، وبين اللذة والألم. ومن بين هذه المتناقضات، تبرز السادية والمازوخية وجهان لعملة واحدة، وجهان يعيشان في جدلية معقدة، إذ يتقاطع الألم مع المتعة، ويتحد الألم مع الرغبة، في إطار غريب من التجربة الإنسانية التي أقل ما توصف به أنها بوهيمية.
نعتذر سلفًا عن مثل هذه الموضوعات التي قد يُقال إنها لا تناسب البيئة الإنسانية الطبيعية وعقلية الإنسان الطبيعي سليم الفطرة.. هذا صحيح، لكن ما لا نعرفه نحن طبيعيُّو المشاعر الإنسانية أكثر بكثير مما ندَّعي أننا نعرفه عن هذا العالم المعقد الذي نسكن فيه رغم أنوفنا لا باختيارنا.
السادية والمازوخية
السادية والمازوخية… الأولى نسبة إلى الكاتب الفرنسي الكونت دي ساد الذي عاش في أواخر القرن السادس عشر، إن لم تخنِّي الذاكرة، وهو كاتب مصاب بلعنة غريبة جعلته يُبدع في أدب خاص عُرف باسمه، وصار له مقلدون كثر، هو أدب الخلاعة أو مدرسة الخلاعة.
المازوخية أيضًا نسبة إلى كاتب نمساوي يدعى مازوخ، وهو يهودي بلا شك، على غرار روبرت مردوخ.. مشكلة المازوخية هنا هي تمامًا عكس مشكلة السادية السابقة.. نعم، التعذيب للذات أو التمتع بعذاب الألم.. نسأل الله السلامة.
وبوجه عام، توجد مؤلفات كثيرة لدي ساد ومازوخ، منها للأول "120 يومًا في سدوم"، وللثاني "حبيبتي في معطف الفرو" أو شيء من هذا القبيل، ولا أنصح بقراءتهما أبدًا بتاتًا قطعًا نهائيًّا.. لكن يوجد من يُفلسف تعريف السادية والمازوخية كما يلي:
السادية والمازوخية كلمتان تحملان في طياتهما أبعادًا تتجاوز ما نراه على السطح، السادية ليست مجرد شهوة لإلحاق الألم بالآخر، ثم إن المازوخية ليست فقط رغبة في تلقي هذا الألم، بل هما انعكاسات نفسية عميقة لأزمات وتفاعلات داخلية، ترتبط بالقوة، والخضوع والسيطرة، والتسليم. هما نوع من التعبير عن الذات، إذ يتحول الجسد والعقل إلى ساحة صراع بين القوة والهشاشة، بين الهيمنة والخضوع.
السادي يرى نفسه سيد المشهد، إنه يفرض قوته على الآخر، مستمتعًا برؤية الآخر يتألم، وكأن الألم الذي يتسبب به هو تأكيد لوجوده، لقوته، لقدرته على التأثير. لكنه في عمقه ليس قويًّا كما يبدو. السادي يبحث في الآخر عن انعكاس لصراعاته الداخلية، عن متنفس لانكساراته النفسية التي ربما خبّأها خلف قناع القوة.
كيف يمكن للألم أن يتحول إلى لذة؟ وكيف يمكن للسيطرة أن تصبح مصدرًا للمتعة؟ الإجابة تكمن في جذور أعمق من العقل الواعي. قد يكون السادي عاش طفولة قاسية، افتقد فيها السيطرة على حياته، وربما تعلَّم أن الألم هو وسيلته الوحيدة للتعبير، فأصبح يفرضه على الآخرين، كطريقة للانتقام غير الواعي من العالم.
ومع ذلك، فإن السادية ليست دائمًا عدوانية بحتة، ففي بعض الأحيان تكون نوعًا من أنواع البحث عن التواصل، إذ يريد السادي أن يشعر بوجوده بواسطة الآخر، يريد أن يكون مرئيًّا، حتى لو كان ذلك بالألم.
على الجانب الآخر، يوجد المازوخي الذي يجد نفسه مستمتعًا بالألم، بالخضوع، بالتسليم للآخر. قد يبدو ذلك تناقضًا غريبًا، كيف يمكن للألم أن يتحول إلى مصدر للمتعة؟ ولكن المازوخية ليست مجرد بحث عن الألم، بل هي أيضًا رغبة في الهروب من المسؤولية، في تسليم زمام الحياة للآخر، في العيش في حالة من اللاسيطرة المريحة.
الشخصية المازوخية لا تبحث فقط عن الألم الجسدي، بل عن الحالة النفسية التي تصاحب هذا الألم. المازوخي يريد أن يشعر بأنه مملوك، بأنه في حالة من الاندماج مع الآخر، في وقت تختفي فيه الذات الفردية في تجربة مشتركة، وقد يكون المازوخي قد عاش تجربة فقدان، أو نشأ في بيئة جعلته يشعر بأنه لا يستحق الحب إلا بالتضحية والألم.
المفارقة كلها تحدث عندما يجتمع السادي والمازوخي، إذ يحدث تداخل معقد بين القوة والخضوع، بين السيطرة والتسليم. إنها رقصة مملوءة بالرموز، بحيث يبحث كل منهما عن شيء يفتقده في الآخر. السادي يحتاج إلى المازوخي ليؤكد وجوده، والمازوخي يحتاج إلى السادي ليجد الراحة في الألم.
لكن هذه العلاقة ليست دائمًا متوازنة، ففي بعض الأحيان قد تتحول إلى حالة من الاستغلال أو الإدمان، فيصبح الألم هو الوسيلة الوحيدة للتواصل، وهنا تكمن الخطورة.
هل السادية والمازوخية جزء من طبيعة الإنسان؟
السؤال الذي يطرح نفسه: هل السادية والمازوخية جزء من طبيعة الإنسان؟ أم أنهما نتيجة لتجارب حياتية معينة؟ الإجابة ليست بسيطة، إذ يعتقد البعض أن هذه الصفات تنبع من تركيبات نفسية عميقة، قد تكون موروثة أو مكتسبة، في حين يرى آخرون أنها نتيجة مباشرة لتجارب حياتية مؤلمة، تركت ندوبًا في النفس لم تلتئم.
السادية والمازوخية ليستا فقط انحرافات سلوكية، بل هما جزء من فهم أعمق للألم واللذة في حياة الإنسان، إذ إن الإنسان بطبيعته يبحث عن المعنى، حتى في الألم يجد معنى ما. قد يكون الألم وسيلة للتطهير، للتحرر، وللتواصل مع أعمق مشاعره.
من قال إن هذه الغرائب ليست في واقع حياتنا؟ على سبيل المثال لا الحصر، نجد عددًا ممن لا وظيفة لهم إلا تعذيب الآخرين والتلذذ بعذابهم في وضح النهار، يطلقون عليهم الرصاص... أعني يطلقون عليهم "مُديرين"... والمثال على النموذج الثاني هو من نسميهم "المستسلمين لأقدارهم تحت مسمى لقمة العيش".
عمومًا، وفي النهاية، تبقى السادية والمازوخية رمزًا لتعقيدات النفس البشرية، لتلك التناقضات التي تعيش في أعماق كل منا. إنهما تذكير بأن الألم واللذة ليسا دائمًا ما نراهما، بل هما جزء من رحلة الإنسان لفهم نفسه، والبحث عن ذاته، في عالم مملوء بالتناقضات.
مقال رائع ومفيد ...بالفعل السادية او الذي يتصف بها .. منتشرة في واقعنا
دمتم مبدع صديقي انور
أنت وتعليقك أجمل وأروع من المقال، حفظك الله ورعاك اختي شهد
أحسنت ياريت كتابة المزيد بنفس السرد الممتاز أنور بك
لا شيء يسعد الكاتب أكثر من أن يكون له متابعين وقراء بمستوى سيدتي عائشة عادل.
دمتي بود
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.