منذ الأزل والثقة هي العقد غير المكتوب بين القارئ والراوي، فالراوي هو نافذتنا على عوالم القصة، مرشدنا الذي نأتمنه على الحقيقة السردية، ولكن ماذا لو كان هذا المرشد خادعًا؟ ماذا لو كانت البوصلة التي يحملها معطوبة عن عمد أو عن غير قصد؟ هنا تكمن عبقرية وفتنة الراوي غير الموثوق (Unreliable Narrator)، تلك الأداة الأدبية التي تحول تجربة القراءة إلى مغامرة فكرية وتحدٍّ للثوابت.
يغوص هذا المقال في أعماق هذا مفهوم الأدبي للراوي غير الموثوق، ساردًا تعريف الراوي غير الموثوق وأنواعه المختلفة، ومستعرضًا تاريخه وتأثيره العميق على تفاعل القارئ مع النص، مع تقديم أمثلة للراوي غير الموثوق من الأدب العربي والعالمي، تكشف كيف يتلاعب الكتّاب بالحقيقة ويبنون عوالم سردية غنية بالغموض والتأويلات، إنها دعوة لاستكشاف كيف يمكن للكذب والخداع في الأدب أن يكشفا عن حقائق أعمق في الطبيعة البشرية وفن الحكي نفسه.
منذ بداية الحكايات، والراوي يُفترض فيه الصدق. إنه حامل الحقيقة، عين القارئ وأذنه داخل العالم القصصي. لكن، ماذا يحدث عندما يهتز هذا الافتراض؟ حين يُصبح الراوي نفسه موضع شك، وتتحول القصة إلى لعبة مرايا، تظهر أحيانًا أكثر مما تخفي؟
هنا ندخل عالم «الراوي غير الموثوق» - أحد أكثر الأدوات الأدبية عبقرية وتعقيدًا.
المصطلح بالإنجليزية هو (Unreliable Narrator)، وقد لا يكون شائعًا في النقاشات الأدبية العربية، لكنه حاضر في كثير من النصوص، وإن لم يُسمَّ بالاسم.
في هذا المقال، نستعرض مفهوم الراوي غير الموثوق، أنواعه، دوافع استخدامه، تأثيره على القارئ، وأبرز الأمثلة العربية والعالمية التي جسدته.
ما الراوي غير الموثوق؟
عرَّفه الناقد الأدبي الأمريكي واين بوث (Wayne C. Booth) في كتابه المرجعي بلاغة الرواية (The Rhetoric of Fiction, 1961) بأنه الراوي الذي يُظهر، سواء عن قصد أو دون قصد، أنه لا يُمكن الوثوق به تمامًا في تقديم الحقائق داخل النص.
ويشرح بوث أن القارئ يشعر بعدم الاتساق أو بالشك نتيجة «تناقضات داخلية في السرد» أو «أدلة خارجية ضمن النص نفسه أو بناءً على معرفة القارئ بالعالم تخالف ما يُقال».
ببساطة: هو الراوي الذي لا يخبرك الحقيقة كلها... أو يخبرك نسخته منها.
أنماط الرواة غير الموثوقين تصنيف وتحليل
الراوي غير الموثوق لا يتخذ شكلًا واحدًا، بل يتنوع بتنوع الخلفية النفسية والفنية للرواية. ويمكن تصنيفه إلى عدة فئات رئيسة:
1. الراوي الكاذب عمدًا (The Liar): هو الذي يتعمد تضليل القارئ لأسباب شخصية أو لتحقيق هدف معين، مثل راوي قصة بوليسية يخفي الحقيقة عن عمد، كما في رواية Gone Girl لـ(جيليان فلين) (Gillian Flynn).
2. الراوي الجاهل أو الساذج (The Naïf): وهو الذي لا يدرك خطورة ما يرويه، أو لا يفهم الواقع من حوله، بسبب صغر سنه أو محدودية خبرته أو قدراته العقلية. كما في The Curious Incident of the Dog in the Night-Time لـ(مارك هادون) (Mark Haddon) حيث يروي صبي مصاب بالتوحد القصة من وجهة نظر محدودة.
3. الراوي المريض نفسيًا أو المضطرب (The Madman): هو الذي يعاني من حالة نفسية أو عقلية تجعله، ولا يفرِّق بين الواقع والخيال، أو يقدم رؤية مشوهة للعالم. مثال بارز: Fight Club لتشاك بولانيك (Chuck Palahniuk).
4. الراوي المتحيز أو العاطفي (The Biased): يُقدم رؤيته الخاصة المتأثرة بعواطفه أو مواقفه الأيديولوجية أو انحيازاته الشخصية، كما في Atonement لإيان ماك إيوان (Ian McEwan).
5. الراوي الذي يكشف عن عدم موثوقيته لاحقًا (The Revealer): يخدع القارئ في البداية، ثم يعترف ضمنيًا أو صريحًا بتضليله. يظهر هذا النمط في Life of Pi لـ(يان مارتل) (Yann Martel)، فنكتشف لاحقًا احتمال أن تكون الرواية التي سمعناها رمزية بالكامل.
تاريخ الظاهرة.. من ألف ليلة إلى الأدب الحداثي
على الرغم من أن المصطلح نفسه حديث نسبيًا، فإن فكرة الراوي غير الموثوق تعود إلى قرون.
في «ألف ليلة وليلة»، تتلاعب شهرزاد بالحكاية وترويها بغرض النجاة مستخدمة السرد سلاحًا للبقاء. في بعض القصص داخل «الليالي»، نجد رواة داخل رواة، لا يمكن التأكد من صدقهم.
كذلك في الأدب الغربي، نجد بذور هذه الظاهرة في روايات مثل:
- «توم جونز» (1749) لـ(هنري فيلدنغ) (Henry Fielding)، حيث الراوي يتحدث كثيرًا عن «عدم قدرته على التفسير» أو «نسيان التفاصيل».
- «حياة وآراء تريسترام شاندي، النبيل» (1759) لـ لورنس ستيرن (Laurence Sterne)، حيث يتشتت الراوي ويسهب في تفاصيل لا ضرورة لها، فيُشوش القارئ عمدًا.
لكن الشكل الحديث للراوي غير الموثوق بدأ مع أعمال الحداثة الأدبية، خصوصًا مع روايات مثل The Turn of the Screw (1898) لـ(هنري جيمس) (Henry James) التي تترك القارئ في حيرة حول حقيقة الأحداث المرعبة التي ترويها المربية، و(غاتسبي العظيم) (The Great Gatsby) لـ(ف. سكوت فيتزجيرالد) (F. Scott Fitzgerald) فيقدم الراوي نيك كارواي صورة مثالية لغاتسبي قد لا تكون دقيقة تمامًا.
تأثير الراوي غير الموثوق على القارئ
وجود راوٍ غير موثوق يغير تمامًا طبيعة العلاقة بين القارئ والنص، فلم يعد القارئ يتلقى المعلومة، بل يُصبح «شريكًا في فك الشيفرة». وعليه أن:
- يشكك فيما يسمعه.
- يحلل التناقضات بين الرواية والواقع القصصي.
- يُعيد التقييم عند كل فصل جديد.
هذه الحالة من «اللعب مع الحقيقة» تمنح النص بُعدًا متعدد الطبقات. كل قراءة تُنتج فهمًا مختلفًا. وهذا ما يجعل تلك الروايات غنية وقابلة لإعادة القراءة مرارًا.
أمثلة عالمية بارزة
1. «لوليتا» - فلاديمير نابوكوف (Vladimir Nabokov): يقدم لنا هومبرت هومبرت، راوٍ مريض نفسيًا يبرر أفعاله البشعة تجاه فتاة صغيرة. هو لبق، مثقف، وساحر لغويًا، لكنه لا يُمكن الوثوق به أخلاقيًا.
2. أعمال مارغريت أتوود (Margaret Atwood): تستخدم أتوود الرواة غير الموثوقين في عدد من أعمالها لاستكشاف الذاكرة والصدمة والسلطة. في روايتها (جارية الكرامة) (Alias Grace)، المستوحاة من قصة حقيقية، تروي البطلة المتهمة بالقتل قصتها لطبيب نفسي، لكن ذاكرتها مجزأة ولا يمكن التحقق من براءتها أو إدانتها. وفي رواياتها الديستوبية (Dystopian Literature) مثل (حكاية الجارية) و(الوصايا) (The Testaments)، نرى الأحداث بعيون شخصيات تعيش تحت نظام قمعي، ورواياتهن تتأثر بالخوف والصدمة والرغبة في البقاء، مما قد يشوه الحقيقة.
3. المرأة في النافذة (The Woman in the Window): إيه. جي. فين (A.J. Finn) امرأة تعاني رهاب الخلاء (Agoraphobia) ومعزولة ومدمنة على الأدوية والكحول، تدعي أنها شهدت جريمة. لكن: هل رأتها فعلًا؟ أم أن كل شيء وهم ناتج عن حالتها النفسية واستهلاكها للمواد المخدرة.
الراوي غير الموثوق في الأدب العربي
على الرغم ندرة تناول هذا المفهوم نظريًّا، فإن الأدب العربي احتوى أمثلة مدهشة له:
1. «اللص والكلاب» - نجيب محفوظ: السارد قريب من وعي سعيد مهران اللص الخارج من السجن المتوتر الساعي للانتقام، رؤيته مشوشة حاقدة وأحيانًا مهلوسة، فنحن لا نرى «ما حدث» بموضوعية بل «ما شعر به سعيد» وتصوراته المشوهة بفعل الغضب والاضطهاد.
2. «الاعتراف» - محمد حسين هيكل: السارد يروي اعترافاته من السجن، ولكن كل شيء يُروى من منظوره، بما فيه جرائمه. والقارئ يظل في حالة من الشك: هل هو ضحية؟ أم جانٍ يُجمل ذاته؟
3. «الكتابة بالممحاة» - كفى الزعبي: رواية أردنية تستخدم السرد الذاتي، لكن الرواية تُفكك السرد نفسه، وتكشف تناقضات البطل في تبرير خيباته، مما يضع روايته موضع تساؤل.
علامات الشك.. كيف تكتشف الراوي غير الموثوق؟
علامات تشير إلى أن الراوي غير موثوق:
- اعتراف مباشر بالكذب أو التضليل.
- تناقضات واضحة بين الأحداث ورؤية الراوي.
- وجود شخصيات أو أحداث تنفي ما يرويه.
- أسلوب مبالغ فيه في الدفاع عن النفس أو تبرير الأفعال.
- المبالغة العاطفية الشديدة أو التحيز الواضح في وصف الأحداث والشخصيات.
- وجود فجوات زمنية أو منطقية غير مبررة في السرد.
- حالة الراوي النفسية أو العقلية إذا كانت مضطربة بشكل واضح.
لكن أحيانًا، لا يكشف الكاتب عن عدم موثوقية الراوي إلا في النهاية؛ ما يجعل القارئ يعيد قراءة الرواية بمنظور جديد كليًا.
وظيفة الأدب في ظل الراوي غير الموثوق مرآة أم لغز؟
الراوي غير الموثوق يجعلنا نتساءل عن وظيفة الأدب نفسه: هل الأدب مرآة مشروخة؟ هل هو وسيلة لنقل الحقيقة؟ أم لإعادة تشكيلها؟
هل يروي الأدب «ما حدث»، أم «ما يمكن أن يكون قد حدث»؟
ربما، كما يقول ألبير كامو (Albert Camus): «الخيال هو الكذبة التي من خلالها نقول الحقيقة» «Fiction is the lie through which we tell the truth» وفقًا لـScribd.
الراوي غير الموثوق لا يخدعنا فقط... بل يُعلِّمنا كيف نقرأ، كيف نشك، وكيف نفهم أن الرواية مثل الحياة، مليئة بالأصوات، والادعاءات، والنسخ المختلفة للحقيقة، إن إتقان قراءة الروايات ذات الراوي غير الموثوق يصقل لدينا مهارات التفكير النقدي ولتحليل، وهي مهارات لا تقدر بثمن في فهم تعقيدات الواقع المحيط بنا.
خاتمة.. متعة الغموض وجمال التلاعب بالحقيقة
الأدب العظيم لا يُقدم إجابات نهائية، بل يطرح الأسئلة، يزعزع اليقين، ويكشف هشاشة الإدراك البشري.
في عالمنا اليوم، حيث تتزاحم الروايات، والحقائق البديلة، والتضليل الإعلامي، يصبح الراوي غير الموثوق ليس فقط أداة فنية، بل صورة مجازية لعصر كامل.
في النهاية، نقرأ الروايات لا لنجد الحقيقة فقط، بل لنخوض رحلة الشك، لنكتشف كم أن «الحقيقة» نفسها قد تكون عملًا فنيًا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.