يُعد تأسيس الدولة الإدريسية نقطة تحول مهمة في تاريخ المغرب، إذ كانت أول كيان سياسي مستقل عن الخلافة العباسية في المشرق، وقد جاء إدريس الأول إلى المغرب فارًّا من بطش خلفاء الدولة العباسية واستطاع بفضل دعمه من القبائل الأمازيغية أن يؤسس دولة قوية، وتركت الدولة الإدريسية إرثًا ثقافيًا وسياسيًّا بارزًا، ما جعلها حجر الأساس في تطور المغرب عبر العصور.
خلال القرن الثامن الميلادي كانت منطقة المغرب الأقصى تحت سيطرة ولاة تابعين للخلافة الأموية ثم العباسية، لكن هذه السيطرة كانت شكلية بسبب بُعد المنطقة عن المركز السياسي في بغداد، وفي سنة 786م قاد إدريس بن عبد الله ثورة ضد العباسيين في الحجاز بمعركة فخ، لكنه هُزم فيها ففر إلى المغرب، إذ وجد ملاذًا بين قبائل أوربة الأمازيغية التي بايعته سنة 789م.
بفضل مكانته كأحد أحفاد النبي محمد ﷺ التفَّت حوله القبائل الأمازيغية، وأعلن قيام دولة مستقلة عن الخلافة العباسية، واتخذ مدينة وليلي عاصمة له.
إنجازات إدريس الأول:
على الرغْم من قصر مدة حكمه، استطاع إدريس الأول تحقيق إنجازات مهمة، منها:
- توحيد القبائل الأمازيغية: نجح في توحيد عدد من القبائل تحت سلطته، ما أسهم في استقرار الحكم.
- نشر الإسلام: ساعد على نشر الإسلام بين الأمازيغ، وعزز المذهب المالكي، الذي أصبح لاحقًا المذهب الرسمي للمغرب.
- توسيع النفوذ: امتد حكمه ليشمل مناطق واسعة من المغرب الأقصى وأجزاء من الجزائر.
- ترسيخ سلطة الدولة: وضع أسس نظام حكم إداري قوي، ما مهد لازدهار الدولة في عهد ابنه إدريس الثاني.
- إلا أن حكمه انتهى باغتياله سنة 791، إذ يُعتقد أن العباسيين وراء مقتله عبر دس السم له، لكن زوجته كانت حاملًا بابنه إدريس الثاني، الذي وُلد بعد وفاته ليكمل مسيرة الدولة.
عهد إدريس الثاني (803-828): بناء الدولة القوية
بعد وفاة إدريس الأول، تولى راشد -أحد مواليه- الوصاية على ابنه إدريس الثاني حتى بلغ سن الرشد عام 803. ومنذ ذلك الوقت، بدأ إدريس الثاني مرحلة جديدة في تاريخ الدولة الإدريسية، وقد:
- أسس مدينة فاس سنة 808م، التي أصبحت لاحقًا مركزًا علميًّا وتجاريًّا ودينيًّا مهمًا في المغرب.
- وسع نفوذ الدولة ليشمل مناطق جديدة مثل تلمسان في الجزائر، ما عزز قوتها.
- أنشأ جيشًا قويًّا لحماية الدولة من الأخطار الخارجية.
- شجع الهجرة العربية إلى المغرب، ما أسهم في تعزيز الطابع العربي الإسلامي للمنطقة.
- بفضل هذه الإصلاحات، ازدهرت الدولة الإدريسية وأصبحت من أقوى الكيانات السياسية في شمال إفريقيا.
تراجع الدولة وسقوطها
بعد وفاة إدريس الثاني سنة 828، قُسِّمَت الدولة بين أبنائه، ما أدى إلى ضعفها وانقسامها إلى إمارات صغيرة، وهذا الضعف جعلها عرضة للتدخل الخارجي، وقد:
- بدأت القبائل الأمازيغية تستعيد استقلالها تدريجيًّا.
- ظهرت قوى جديدة مثل الفاطميين الذين استغلوا الانقسامات وضعف الحكم الإدريسي.
- بحلول سنة 974، تمكن الفاطميون من القضاء على الدولة الإدريسية نهائيًا، ونقلوا إدريس، آخر حكامها، إلى القاهرة.
وعلى الرغم من سقوط الدولة الإدريسية، فإنها تركت بصمة خالدة في تاريخ المغرب، إذ كانت أول دولة مستقلة عن المشرق، وعملت على توحيد القبائل تحت سلطة مركزية قوية، كما أسهمت في نشر الإسلام وتعزيز الهوية والثقافة المغربية، خاصة عن طريق تأسيس مدينة فاس التي أصبحت مركزًا علميًّا وحضاريًّا، ويُعد الإرث الإدريسي أحد الأسس التي قامت عليها الدول المغربية اللاحقة، ما جعل المغرب يحتفظ باستقلاله السياسي عن القوى الخارجية في معظم مراحل تاريخه.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.