يُعد مفهوم الدخالة عند العرب، ولا سيما في الثقافة العربية البدوية، أمرًا شائعًا ومعروفًا، ويمثل أعلى قيم الأخلاق في الشهامة وحماية المظلوم، حتى لمرتكب الجناية، إما حقنًا للدماء وإما لضمان أن يؤخذ بحقه القصاص العادل ولا يتعرض للظلم هو وأهله، حتى إن بعض أنواع الدخالة تكون عندما يرتكب شخص جناية ما بحق شخص آخر، ثم يطلب مرتكب الجناية الدخالة على أهل الشخص الذي ارتكب بحقه هذه الجناية.
وبذلك نفهم الدخالة بمفهومها العام والواسع، وهو طلب الحماية أيًّا كان السبب، إما لظلم لحق بالشخص الدخيل، أو خوفًا من مطاردة أحد، أو اعترافًا بالجريمة وخوفًا من الثأر، وقد تتداخل هنا مع مفهوم الجلوة في العرف العشائري، وهذا ليس موضوعنا الآن.
وللدخالة أشكال عدة كما يذكرها الكاتب عارف عواد الهلال في كتابه أعراف البادية، إذ تتجلى فيها جماليات الثقافة العربية البدوية، ومنها أن يلجأ الدخيل إلى أحد البيوت وطلب الحماية من أهلها إن كان طريدًا، ويكون محميًّا بقدر مرمى عصا من يد صاحب البيت.
أو أن يلجأ الشخص، وهذه تعد في الثقافة البدوية من أشد أنواع الدخالة وطأة على النفس، بأن يدخل الجاني على خصمه بأن يضع عقال رأسه في رقبة خصمه ويركع أمامه، أو يحتضن أحد أعمدة البيت، أو يدخل إلى المكان المخصص للنساء، أو يرمي بنفسه في فراش أولاد خصمه، أو أن يُدخل النساء والصبية على خصمه.
ومن أنواع الدخالة أيضًا أن يلجأ الشخص بعقد طرف منديل من يُعرف بـ"الوجه"، وهو المدخول عليه، ثم يتوجه إلى غريم الدخيل ليقوم هذا الأخير بحل العقدة وفاءً لخصمه.
ومتى قُبلت دخالة الشخص، سُمِّي بالدخيل، ولا يجوز تسليمه لخصومه بأي حال من الأحوال، ولا بأي ثمن كان.
ولعل أبرز قصة جسدت الوفاء للدخيل هي قصة أولاد الشيخ إبراهيم الضمور وزوجته الشيخة عليا الضمور، الملقبة بـ"أم الذبيحين"، في مدينة الكرك الواقعة جنوب المملكة الأردنية الهاشمية، وقد صُورت هذه القصة في المسلسل البدوي عطر النار الذي جسَّد فيه الفنان الراحل نبيل المشيني دور الشيخ إبراهيم الضمور، والفنانة عبير عيسى دور عليا الضمور.
وتتلخص هذه القصة في أنه في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، حصلت ثورة في مدينة نابلس في فلسطين ضد إبراهيم بن محمد علي باشا، حاكم مصر، الذي أراد احتلال فلسطين. وكان من المقاومين له الشيخ قاسم الأحمد، زعيم مدينة نابلس. وبعد مطاردة ضارية للشيخ قاسم من قبل إبراهيم باشا، انتهى به المطاف إلى مدينة الكرك ليطلب الحماية واللجوء من الشيخ إبراهيم الضمور.
فأسر إبراهيم باشا ابني الشيخ إبراهيم الضمور، وخيَّره بين قتل أولاده حرقًا أو تسليم الدخيل الشيخ قاسم الأحمد، فرفض الشيخ إبراهيم الضمور تسليم الدخيل، وأبى ذلك، وآثر حرق أولاده على أن يسلم الدخيل، حتى إنه بعث إليه قائلًا: "إن لم يكن لديك حطب فسأرسل لك". وآزرته في ذلك زوجته الشيخة عليا الضمور التي أطلقت مقولتها الشهيرة:
"النار ولا العار، في المال ولا بالعيال، وبالعيال لا بالأرض والعرض".
وبالفعل، أُحرِقا، ولم يسلم الدخيل.
قد يراها بعضنا قمة في المثالية، لكنها ليست كذلك، بل هي قمة الالتزام الأخلاقي في الشهامة والقيم والرجولة العربية.
قصة أولاد الشيخ ابراهيم الضمور هي قصة حقيقية حدثت بالفعل
مقاله
مقال مفيد و ممتع باذن الله للجميع
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.