سيكولوجية الخوف والقلق الوجودي في الأدب الحديث.. مقارنة بين موباسان وزفايغ

في ظل التحولات الوجودية والفلسفية التي شهدها العصر الحديث، برز الخوف أحد المفاهيم المحورية في الخطاب الأدبي، لا بوصفه انفعالًا عابرًا، بل ظاهرة معقدة تكشف عن الهشاشة الجوهرية للإنسان في مواجهة ذاته والعالم. يأتي هذا البحث ليدرس تمثيلات الخوف في الأدب بنموذجين متميزين: غي دو موباسان وستيفان زفايغ اللذين كوَّنا كل بطريقته رؤية فريدة للقلق الوجودي في سياقاته التاريخية والنفسية.

التمثيل السردي للخوف عند موباسان

هل الخوف مرآةٌ للعقل أم وهمٌ يخلقه العقل ذاته؟

لا يمكن اختزال الخوف في الأدب عند موباسان أو ستيفن زفايغ في مجرد وَهْم عابر أو فوبيا سطحية، بل هو انزياحٌ وجودي يُجسِّدُ أعمقَ تناقضاتِ الكائن البشري. ففي حين يحوِّل موباسان الخوفَ إلى سردٍ مادي يلامسُ الجنونَ واللامعقول، يغوصُ زفايغ في العوالم النفسية التي تُحوِّلُ الذاتَ إلى ساحةِ حرب غيرِ مرئية. وهكذا، إذا كان موباسان يُخيف عبر ما لا يُرى، فإن زفايغ يُرعب عبر ما لا يُنسى.

اللامعقول والانزياح الواقعي.. تشريح سرديات الخوف في نصوص موباسان

في قصص مثل «فوق صفحة الماء» أو «هو؟»، لا يكتفي موباسان بوصف الخوف، بل يجعله كائنا مستقلًا يتسللُ إلى الواقع، يتغذى على العزلة ويكبر في ظلال الهشاشة البشرية.

كتابات موباسان

الخوف هنا هو رد فعل على تهديد خارجي، وانكسارٌ أمامَ غموضِ الكون. اللغةُ نفسها تتحول إلى أداة للرعب: شحن اللغة بحمولة نفسية، تقطير المشاهد، التكثيف.. كأنما الكلماتُ تعجزُ عن احتواء الفزع فتمضي المتوالية الحكائية.

ووظَّف موباسان التناص مع شعر فكتور هوغو ليعزز البُعد الشعري والميتافيزيقي للخوف، خاصة حين استدعى من قصيدة «ليل المحيط» لفكتور هوغو في قصته «فوق صفحة الماء».. لتشكيل مناخ من الكآبة والاضطراب الوجودي.

الإنسانُ في عالَم موباسان ضحيةٌ لغرائزه، وللقوى الخفية التي تتحكم فيه دون أن يفهمها. الخوفُ هو اللغة الوحيدة التي يتحدث بها المجهول، وصدى التمزق بين ما هو واقعي وما هو متخيل.

تشريح الهشاشة النفسية: الخوف كبنية داخلية في نصوص زفايغ

أما زفايغ، فيُخرِجُ الخوفَ من حيِّزِ الواقع المادي إلى فضاءِ العذابِ الداخلي.

في رواية «الخوف»، لا تحتاج البطلة الأرستقراطية إلى وحش خارجي لتُعاني؛ فذاكرتها وضميرها كافيان لخلق جحيم خاص. قال عنها: «بات كل وجودها ملغما بهذا الخوف المضني، وقد تسمم به جسدها».

الخوفُ عند زفايغ صراعٌ مع الذات المكبوتة، مع الأخطاءِ التي لا تُغتفر، ومع المجتمعِ الذي يتحول إلى قاض قاس.

الخوف في كتابات زفايغ

الزمن نفسه يتآمر عليها: اللحظةُ الواحدةُ تتمدد كما لو كانت دهرًا، والماضي لا ينتهي بل يعيد تشكيلها كل مرة من رماده.

وبذلك أظهر زفايغ كيف أن الخوفَ يتجذرُ في الذاكرة ويُعيدُ تكوين الحاضر، ويحوِّل العالم إلى متاهة مميتة.

تحليل مقارن للتقاطعات والهوَّة بين الرؤيتين

عند موباسان، يكشف الخوفُ عن هشاشةِ الإنسان أمام الكون، في حين يكشفُ عند زفايغ عن هشاشته أمام نفسه.

موباسان يبدأ من العالم لينتهي إلى الجنون، وزفايغ يبدأ من الذات لينتهي إلى العزلة، فالإنسان عند زفايغ متورط في صناعة مخاوفه.

موباسان يستخدمُ الواقعيةَ القاسية والانزياحَ نحو الخيال، في حين يعتمدُ زفايغ على التحليل النفسي وتشريحِ اللحظاتِ الهشَّة.

الخوف كأرشيف للصدمات.. اللاوعي الجمعي كراوٍ خفي

موباسان يعيشُ في عصرِ العلمِ والاكتشافات، لكنه يرى الظلامَ الذي يختبئ خلفَها، يرى أن التقدم لا يلغي المجهول بل يضاعف تجلياته.

أما زفايغ، فيكتبُ في زمنِ انهيارِ الإمبراطورياتِ، وصعودِ الفاشية، وولادةِ الأمراضِ النفسية الحديثة. هذا ما يؤكد أن الخوف عندهما ليس شعورًا فرديًّا، بل مرضًا حضاريًّا، وتعبيرٌ مكثف عن قلقِ إنسان العصر.

ولكن هل يكتب الأديب عن خوفه، أم عن خوف مرَّ من هنا قبل وجوده بقرون؟ الخوفُ في أدب موباسان وزفايغ كيان متعدد الطبقات، يتغذى من الذاكرة الجمعية، ويعيد إنتاج صدمة الجيل على نحو سرديّ متوتر، فالرواية أو القصة عندهما ليست إلا أرشيفًا غير مرئي لجرح حضاريّ عميق، فلا يمكن فصل رؤية الكاتبين عن سياقهما.

الكتابة عن الخوف

عند موباسان، يلبس الخوف قناعَ اللاعقلاني في زمنٍ يُؤله العقل. يكتب في سياق ما بعد الحروب الفرنسية، حيث فقدت أوروبا يقينها بالهوية والاستقرار. كل رعب في نصوصه يُشفِّر خيبة جيل ظن أن العلم سيحرِّره، فإذا به يُقابِل شبح الهورلا ودوامة من؟

الخوف هنا هو ابن ليل طويل من الانكسارات الجماعية، يتحوَّل إلى ميتافيزيقا يومية: الإنسان لا يخاف من شبح، بل من فكرة أن شيئًا لا يُرى، يتحرك خلف الوعي. وهنا يصبح النص مرآة للهوية الممزقة، واستدعاء لجسد يحمل آثار الحروب حتى حين لا يُذكر اسمها.

أما زفايغ، فخوفه يخرج من جرح إمبراطورية تلاشت أمام عينيه. في كتاباته، تتجلى النمسا-المجر جثة ثقافية يحدق فيها الكاتب بخوف المتأخر. الخوف عنده ليس فقط انعكاسًا لخطأ فردي، بل أثر لصوت جماعي مكتوم، صوت جيل سقط في فخ الحداثة دون درع. كل شخصياته مهددة لا فقط بذاتها، بل بتاريخ لم يعد لها فيه مكان. الذاكرة هنا ليست شخصية، بل ترسُّبٌ طبقيٌّ للزمن، والوعي الفردي ليس إلا شظية صغيرة علقت في الحلق.

كما لو أن موباسان كان يكتب عن عالم خذل الإنسان، وزفايغ يكتب عن إنسان خان العالم. الأول يستبطن خوف الوجود، والثاني يرث فوبيا الزوال. كلاهما يكتبان باسم جيل لم يقل كل ما شعر به، فجاء الأدب ليوصل لنا ما لم يقله التاريخ بلغته الجافة. ليبقى الأديب حارسًا أمينًا لهشاشة لا تخصه وحده.

ختامًا، يُقدِّم لنا الأدبُ عبر هذين العملاقين خريطة للخوف: واحدة تقودُنا إلى أعماقِ الكون، وأخرى إلى أعماقِ أنفسنا، وفي تباينهما هذا، يظهر موباسان زيف الأمان، والخوف عنده ليس سوى تذكير بضعفنا أمام العالم. أما زفايغ، فبخوفه يحاول أن يقتنص لحظة تتعرض فيها النفس لزلزال داخلي.

وكأن زفايغ ينطلق من الداخل «النفس البشرية» وموباسان من الخارج «العالم». وبذلك لدينا نوع يسكننا وآخر يواجهنا. لهذا يظل أدبهما راهنًا: لأنه لا يُطمئن، لا يبرر، لا يعالج.. بل يصغي للشعور وهو يتكلم بلغته، ويقول لنا إن الأدب حين يقترب من الخوف، لا يفعل ذلك ليزيله بل ليصادقه.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

شكرا جزيلا أستاذ محمد
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقال رصين
كل التوفيق والسداد
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

جميل جدا،مزيدا من العطاء و الازدهار ♥️
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

أنار الله دربك وأسعد قلبك
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

سلام الله عليكم، مقال جميل يا أخي إذ من المعلوم أن كل كاتب أو أديب له مرجعيته الفلسفية بشكل أو بآخر، فموباسان يتبنى الفلسفة الطبيعية التي تقول بأن مصدر المعرفة يأتي من خارج الذات، إلا أن موباسان جعل للخوف مصر غيريّ أي مبعثه من الغير/الآخر، وإن كان يعيش في عصر يألّه العقل ويسلطنه.بينما زفايغ تبنى الفلسفة المادية بوضوح والتي تجعل من الذات مصدر المعرفة، فلذلك انتهى إلى أن الخوف مصدره الذات الإنسانية. كل واحد منهما تكلم عن الخوف من مقاربته لمجتمعه من منظوره الفلسفي. والحق أنهما جسّدا خوفهما -الذاتي- الحقيقي من الحداثة وزيفها على لسان شخصياتهما أو مجتمعيهما. أما الخوف في جوهريته فهو مما يتّصف به الإنسان ،شيء فطري كالجوع والشبع والفرح والألم إلخ إلا أنه قد يصبح علة نفسية كما ذكر زفايغ بعد التراكمات. عموماً مقال جميل وفقك الله.
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

صدقت القول.. حفظك الله وسدد خطاك
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة