في بحث جديد من جامعة هارفارد، يجيب الباحثون عن واحدة من أكثر الأسئلة جدلًا حتى الآن، وهي: هل فعلًا كانت المياه تجري على الكوكب الأحمر؟ وأين ذهبت؟ وهل يمكن للأرض أن تمر بنفس التجربة؟ نجيب في هذا التقرير عن بعض هذه الأسئلة في إطار البحث الجديد بجانب توضيح لبعض المفاهيم.
مكانة الكوكب الأحمر لدى الرومان
"في ساحة المعركة، نحن فقط أيدي مارس، نحمل سيفه" أوفيد (شاعر روماني)
روما، وتحديدًا في القرن السادس قبل الميلاد، حيث يمتزج الهواء بأصوات المزايدين ينادون لبيع بضاعتهم، وأصوات الجنود وهم يخطون في صفوف منتظمة تتلحن بقرع طبول الحرب. طرق روما المرصوفة بالحصى أصبحت ناعمة بفعل أقدام الجيش الروماني الذي لا يشغل فكره غير شخص واحد: مارس، إذ كان يُعبِّر عن إله الحرب في الميثولوجيا الرومانية.
لم يكن مارس مجرد بقعة حمراء في السماء فقط لدى الرومان، بل كانوا أيدي مارس وسيوفه، فقد كان هو الذي يحارب من أجل روما لتصبح فيما بعد حضارة روما العريقة. لعلَّ هذا الاهتمام الكبير بمارس لم يندثر بتعاقب الحضارات، بل يمتد حتى يومنا هذا، فمع تعاقب السنوات تزداد رؤيتنا أكثر عمَّا حولنا في الكون، ومع تزايد معرفتنا به، تزداد أسئلتنا والمعضلات التي تنتظر إجابات.
الاهتمام بكوكب المريخ بدأ من قديم الأزل حتى أصبح ما يشبه المعمل الكبير في يومنا هذا بسبب وجود مركبات وأقمار صناعية تدور حوله، فهو الكوكب الوحيد الذي خطت عليه المركبات الروبوتية والأقمار الصناعية واستمرت أوقاتًا طويلة، حاملةً لنا كثيرًا من المعلومات القيمة وأيضًا كثيرًا من الأسئلة، فتلك الكرة الصخرية التي تبعد ما يقارب 230 مليون كيلومتر، كانت في الماضي أشبه بكوكب الأرض، لينتهي بها الحال إلى أرض قاحلة، وعلى مر السنوات يحاول العلماء الإجابة عن السبب في هذا التغير العنيف الذي قد يهدد الأرض مستقبلًا.
عينات مريخية على الأرض
مع أنَّ كوكب المريخ يبدو قاحلًا، فإنه توجد دلائل كثيرة تدل على أنه كان وفيرًا بالمياه في حقبة ما من الزمن، ولعل أكثر الأدلة رواجًا هو تحليل بعض العينات من المركبات الروبوتية التي تسير على المريخ الآن، وبعضها على عينات قذفتها الطبيعة إلى الأرض. نعم، أنت قرأتها على نحو صحيح! لدينا على الأرض صخور نشأت على الكوكب الأحمر ووصلت إلينا منذ ملايين السنين.
تخيَّل معي أنك تقف الآن على شاطئ في مكانك المفضل لقضاء عطلتك الصيفية، وأمسكت بحجر وقذفته على الرمال التي تكسو الشاطئ. بمجرد لمس الحجر الرمال، ستنطلق بعض حبات الرمال في الهواء إلى أن تستقر مرة أخرى على الأرض. الآن، لنترك الشاطئ والكوكب بالكامل ونتحرك نحو كوكب المريخ.
منذ ملايين السنين، انهالت الكويكبات على كواكب مجموعتنا الشمسية، ولم يسلم الكوكب الأحمر، فنتيجة بعض الأجسام الكونية الكبيرة الحجم التي سقطت عليه؛ قُذفت الصخور المكونة لقشرة المريخ عاليًا في الغلاف الجوي بسرعات عالية، لدرجة أن بعضها خرج من نطاق الكوكب، وأي جسم لا يحتاج لأي شيء آخر غير سرعة عالية حتى يخرج من نطاق جاذبية الكوكب.
وبمرور السنين، اقتربت بعض الصخور من كوكب الأرض، فجذبتها الجاذبية نحوها حتى اصطدمت بالأرض واستقرت لملايين السنين. حتى الآن، لدينا نيازك معروفة قادمة من المريخ بأعمار مختلفة، تتراوح بين 4.5 و2 مليار سنة. وبتحليل تلك النيازك، وجدنا دلائل على تكوّن هذه الصخور في بيئة ذات طبيعة مائية ودرجة حرارة معتدلة، لكن كيف يمكن تحديد ذلك من مجرد صخرة؟
الصخور أكثر من مجرد جماد
لنرجع للوراء قليلًا، عندما حدث الاصطدام العنيف على كوكب المريخ، هذه الاصطدامات دفعت بالصخور المكونة لسطح المريخ إلى الفضاء؛ ما يعني أنها دفعت بجزء من الكوكب نفسه الذي يحتوي على الذرات المنتشرة في أغلب بقاع الكوكب، لذلك عند تحليل هذه النيازك في الوقت الحالي، فنحن ننظر إلى تكوين تربة المريخ منذ مليارات السنين، وبذلك نعرف العناصر التي كانت موجودة في تلك الحقبة الزمنية.
فبعد فحص أقدم نيزك مريخي معروف باسم ALH84001، بعمر 4.5 مليار سنة (اكتُشف في القارة القطبية الجنوبية عام 1984م)، وجد العلماء روابط بين بعض نظائر العناصر تحتاج إلى درجة حرارة معينة، لكن ما المقصود بروابط بين نظائر العناصر؟
النظائر هي ذرات من عنصر ما، وليكن الكربون، إذ تحتوي دائمًا على نفس عدد البروتونات الذي يُقدَّر بـ 6 في أي ذرة كربون، لكنها تختلف في عدد النيوترونات، مثلًا: كربون-12 يحتوي على 6 نيوترونات، وكربون-13 يحتوي على 7 نيوترونات، ودائمًا تلك النظائر الثقيلة، مثل كربون-13 وأكسجين-18، يفضلون الارتباط ببعضهم بدلًا من الارتباط بالنظائر الأخف، حتى لو كانت من عناصر مختلفة.
وهنا تؤدي الحرارة الدور الأكبر في هذا الارتباط؛ فعند درجات الحرارة المنخفضة ترتفع نسبة حدوث ارتباط العناصر الثقيلة، وعند درجات الحرارة المرتفعة تكون نسبة ارتباط العناصر الأخف أكثر. وبتحليل الارتباط بين نظائر الكربون والأكسجين، يمكن للعلماء أن يستنتجوا درجة الحرارة التي تكوَّن بها هذا الارتباط، ومنها الصخرة التي تكوَّنت على المريخ، ما يُعطينا نظرة على درجة الحرارة في هذه الحقبة.
قاتل الكواكب.. الاحتباس الحراري
في دراسة نُشرت مؤخرًا في مجلة نيتشر جيوساينس بقيادة فريق من الباحثين من جامعة هارفارد، أشارت إلى أن المياه كانت تجري على المريخ في حقبة ما، لكنها لم تدم طويلًا.
فقد كان الكوكب يتقلب بين درجات حرارة باردة ودافئة لمدة من الزمن، بفضل ذرات الهيدروجين التي كانت موجودة بوفرة في الغلاف الجوي لكوكب المريخ.
هذه التغيرات استمرت على مدار 40 مليون سنة، وكل دورة بين البرودة والدفء استمرت لما يقارب 100 عقد من الزمان. وبفضل ذرات الهيدروجين، فقد أدت دورًا مع ثاني أكسيد الكربون في الحفاظ على درجة حرارة مثالية التي بدورها ساعدت على وجود المياه، في عملية تُعرف بـ الاحتباس الحراري.
الاحتباس الحراري أشبه بـ نجمة الموت من سلسلة أفلام حرب النجوم؛ فهو لديه القدرة على تحويل كوكب من جنة إلى كتلة ملتهبة! الفضل يرجع إلى غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يحبس الحرارة في الداخل، وهذا ما يحدث الآن في كوكب الزهرة؛ فدرجة الحرارة على سطحه تتجاوز 400 درجة مئوية، بسبب وجود كميات كبيرة منه تحبس الحرارة دائمًا، وهذا ما نخشاه مع ارتفاع نسبة الاحتباس الحراري على كوكب الأرض.
لكن في كوكب المريخ، كيف كانت درجات الحرارة تختلف بين صعود وهبوط، مع أننا نتحدث عن عملية احتباس حراري تحدث؟
كوكب الزهرة بأطياف مختلفة توضح مدى الاحتباس الحراري – مصدر الصورة: ناسا (تحت حقوق المشاع الإبداعي).
معضلة الهيدروجين
كما تحدثنا سابقًا، فالهيدروجين كان موجودًا بوفرة في الغلاف الجوي للكوكب الأحمر، ولكن ليس مدة طويلة، حتى فرَّ هاربًا خارج الكوكب، وهو أيضًا عامل مهم فيما آلت إليه الأمور الآن. وعليه، أجرى الباحثون تجارب لمحاكاة ما حدث قبل مليارات السنين، ووجدوا مراحل دافئة متقطعة قبل 4 مليارات سنة من الآن. تلك المراحل كانت تسمح أحيانًا للمياه بأن تجري بين أخاديد الكوكب، وأحيانًا أخرى تنهي مسارها.
إحدى النماذج التي أجراها الفريق لتفسير ما حدث تبدأ من الغلاف الجوي، إذ توجد ذرات الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون. بوجود هذين العنصرين، يكون سطح الكوكب دافئًا بسبب بقاء الحرارة في الداخل.
لكن مع سقوط أشعة الشمس والأشعة فوق البنفسجية على ثاني أكسيد الكربون (CO₂)، يمكن أن تهرب ذرة أكسجين، وتترك العنصر ليصبح ذرة كربون وذرة أكسجين، فيما يُعرف بأول أكسيد الكربون (Carbon Monoxide - CO)، وفي هذه اللحظة تجد ذرات الهيدروجين الوحيدة فرصة لتتحد مع ذرة الأكسجين، لتحبسها معها داخل الغلاف الجوي وتمنعها من الهروب خارجه.
وبعد هذه العملية، تتفكك ذرات ثاني أكسيد الكربون، لذا تقل درجات الحرارة على سطح الكوكب، لكن مع انخفاض درجة الحرارة، وعند نقطة معينة، تبدأ التفاعلات بين أول أكسيد الكربون (CO) والهيدروجين والأكسجين (OH)، إذ تندمج ذرة الأكسجين مع أول أكسيد الكربون، ويتكوَّن لدينا ثاني أكسيد الكربون وذرة هيدروجين وحيدة مرة أخرى، ما يرفع درجات الحرارة داخل الكوكب.
وبهذا، يكون الهيدروجين سببًا في نمو الاحتباس الحراري، فقد حافظ على ذرة الأكسجين في مدة الحرارة العالية حتى تندمج مجددًا وتكوِّن ثاني أكسيد الكربون مرة أخرى.
وأيضًا، في أثناء هبوط المياه من الغلاف الجوي للأرض، تُطلق بعض ذرات الهيدروجين في الغلاف الجوي، ما يسمح بالتقاط بعض ذرات الأكسجين الوحيدة، ما يزيد نسبة تكوّن ثاني أكسيد الكربون لاحقًا. وبهذا، اقترح الباحثون أنه خلال هذه التقلبات في درجات الحرارة، يمكن للكوكب الأحمر أن يستضيف المياه في صورتها السائلة التي لدينا بعض آثارها حتى الآن على كوكب المريخ على هيئة قنوات مائية.
كوكب المريخ من مركبة فايكنج 1 في أثناء تحليقها على مسافة 2500 كيلومتر من الكوكب الأحمر عام 1980 – مصدر الصورة: ناسا (تحت حقوق المشاع الإبداعي).
ماذا بعد؟
مع أنَّ لدينا أشكالًا على كوكب المريخ تبدو وكأنها قنوات ومجاري مياه، فإنه ليس لدينا تأكيد بأنها وُجدت لهذا الغرض. ربما تكوَّنت هذه الأشكال بسبب بعض الرياح العاتية التي كانت تجوب الكوكب فيما مضى، لكن هذا لا ينفي دلائل وجود مياه على الكوكب فيما مضى أو حتى الآن، فنحن نعلم أن في هذه اللحظة يوجد ماء متجمد على الكوكب بالقرب من الأقطاب.
لكن تبقى المعضلة الأكبر التي تُحيِّر الجميع: هل كان المريخ يستضيف حياة في حقبة توافرت فيها المياه؟ نحن هنا لا نتحدث عن حياة عاقلة مثل البشر، فقد تكون بكتيريا، ولكنها لم تنجُ بسبب التغيرات المناخية.
حاليًّا، يدرس الفريق البحثي من جامعة هارفارد نظريتهم الجديدة، التي توافقت مع بعض النماذج التي أُجريت على بعض الصخور المريخية على الأرض، في محاولة لفهم هذا التغير العنيف على سطح الكوكب الأحمر.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.