الحب لا يعرف المستحيل

كانت مفعمة بالحيوية كعادتها، كانت تشع نورًا من نشاطها وحركتها. كانت حياتها جميلة إلى الحد الذي يجعلها تدون كل تفصيل مهما كان صغيرًا في دفتر مذكراتها. كانت تنام بعمق وتستيقظ قبل المنبه وقبل طلوع الشمس من شدة تعلقها بالحياة. تشرق كأنها الشمس، نورها يزهر كل من التقت به.

إلى أن جاء ذلك اليوم الذي على غير عادتها، لم تستطع النوم ولم تستيقظ قبل المنبه، بل استيقظت والشمس مشرقة. ارتدت لونًا أسود على غير عادتها، وكأن قلبها شعر بحدث مؤلم لها، وأقام العزاء قبل حدوث الكارثة. ما لبثت أن خرجت من باب منزلها، وإذا بها تصطدم بسيارة نثرتها بعيدًا، ونثرت كل أحلامها وحياتها وشبابها ومستقبلها.

استفاقت من غيبوبة دامت أسبوعين لتجد نفسها مبتورة إحدى القدمين. من تلك اللحظة أصبح العالم في نظرها باللون الأبيض والأسود. وما لبثت أن فقدت وعيها من قوة الصدمة، ثم بعد تدخل الأطباء استفاقت لتبدأ معاناتها الجديدة لحياة بلا عملها السابق، ولا كمال جسدها السابق. عادت إلى البيت بكرسي متحرك، وأصبح أبعد مكان تذهب إليه هو نافذتها.

كانت تجلس على نافذتها في الصباح لتشاهد المارة وأطفال المدارس، إلى أن دخلت في نوبة اكتئاب جعلتها لا تريد رؤية الضوء ولا حتى الشمس. أصبحت تجلس على نافذتها عندما يحل الظلام، فهي بالنسبة لها أن الحياة في اللونين الأبيض والأسود.

ذات يوم، عادت من نافذتها إلى مكتبها الذي كانت تجلس عليه، الذي لم تقترب منه منذ وقوع الحادث، فوجدت دفتر مذكراتها، لتدخل في نوبة اكتئاب وحزن شديد. صرخت وبكت بصوت مرتفع، لتلقي بذلك الدفتر من النافذة. هرع الأهل على صوتها، فوجدوها فاقدة الوعي، أسرعوا لنقلها إلى المستشفى لتلقي العلاج المناسب.

كان يوجد عابر من ذات الطريق طبيبًا يعالج ذات حالتها، مبتعثًا إلى القرى والمحافظات يومًا لعلاج حالات مشابهة لحالتها، لكن لا الطبيب ولا الأهل يعرفون بعضهم بعضًا. نظر إليها، وما لبث أن غادرت السيارة. لفت نظره الدفتر الملقي على الأرض، أخذ ذلك الدفتر وهرع إلى المنزل، وهو يفكر طول الطريق: ما الذي يجعل الفتاة تفقد وعيها وترمي الدفتر؟ ماذا يحتوي ذلك الدفتر؟ هل يوجد داخله خذلان من قصة حب؟ دونت به وعود ذلك الشاب وكلامه؟ أم ماذا؟

وصل إلى البيت، غير ملابسه مسرعًا، وعمل كوبًا من القهوة، ثم بدأ يقرأ محتوى الدفتر. ولكن السؤال: لماذا ألقت به من النافذة؟ أم أنها تتخيل حياة جميلة كهذه؟ ألف سؤال لا جواب له.

أشرق الصباح، لقد عادت من المستشفى، وكعادتها جلست هذه المرة صباحًا عند النافذة. مر الطبيب من أمام نافذتها، حدق بالنافذة ليراها، إنها حسناء كحُسن محتوى ذلك الدفتر. كان يوجد بائع بالونات، اشترى جميع البالونات وكتب ورقة في محتواها: «هل من الممكن أن نكون أصدقاء؟ أنا الطبيب...» وذكر اسمه، ثم رماها باتجاه نافذتها.

لفت نظرها ذلك المنظر الجميل، وسرعان ما أمسكت بتلك البالونات لتجد الورقة. قرأتها ثم أغلقت نافذتها والستار، وهي تردد: هل تحبني مع هذا العجز والنقص؟ هل من الممكن أن تكون صداقة إلى شخص عاجز مثلي؟

لكنها أصبحَت شيئًا يشغلها عن عجزها، ألا وهو انتظار الطبيب، وهي لا تعرف أي تفصيل عنه، ألا وهو انتظار الطبيب، وهي لا تعرف أي تفصيل عنه. ثم في اليوم التالي، بعث لها باقة ورد إلى البيت مع طفل، وكتب لها ذات الورقة. لكنها قررت أن تنهي هذه اللعبة قبل أن تبدأ، وقررت أن تعود عندما يحل الظلام لتجلس أمام النافذة كي لا تشاهد أحدًا.

مضى يوم ويومان وأسبوع، ولم يشاهدها الطبيب، فقرر أن يطرق الباب ليطمئن عليها. طرق الباب، فتح والدها الباب، ثم عرّف عن نفسه. أدخله والدها ليحكي في الداخل كامل الحكاية للطبيب. طلب الطبيب رؤيتها، كانت قافلة الباب، وكانت أمها عند الباب تتوسل إليها أن تفتح الباب كي تطمئن عليها وتتناول الطعام.

طرق الطبيب الباب، قال لها: «يوجد ضيف، ألن تفتحي الباب؟» اندهشت، فمن سوف يزورها؟ تحركت في كرسيها المتحرك نحو الباب لتفتحه، وفوجئت بوجود الطبيب. بكت بحرارة، ليخبرها الطبيب أنه يريد اصطحابها إلى عيادته الخاصة.

ذهبت مع والديها، ليخبرهم أنه بالإمكان أن تحل الأطراف الصناعية مكان ما بُتر من قدمها. للحظة عادت الحيوية لها والأمل. ثم طلب من أهلها أن يصطحبها في نزهة معه، لأنه نصف العلاج نفسي قبل أن يكون بدنيًّا.

اصطحبها إلى البحر، تناولوا المأكولات البحرية الطازجة، ثم تناولوا الشاي والذرة، وقضت أجمل يوم. عادت بعد غروب الشمس لتنام بعمق لم تنمه منذ وقوع الحادثة، وبدون الحاجة إلى أدويتها. ثم استيقظت، وقد كانت الساعة الثانية مساءً. سمعت صوت الطبيب يتحدث عن وقت العملية.

ذهبت إلى المستشفى، وقبل الدخول إلى العمليات قدَّم لها الطبيب دفتر مذكراتها قائلًا: «أريد أن تكملي ما توقفتِ عنده من حياة جميلة، وتدوِّنيها في مذكرات حياتك».

عندما شاهدت دفترها زاد حماسها، دخلت العمليات، لتخرج بعد ساعات، لتجد أنها قد استغنت عن الكرسي المتحرك، وأن عصًا صغيرة كفيلة لحل هذه المشكلة، تتكئ عليها.

ذهبت بفرح شديد، نامت بعمق شديد، لتستفيق على صوت والدتها تقول لها: «هيا، انهضي، الطبيب في انتظارك». والابتسامة في وجه والدتها. كانت تظن أنه جاء للاطمئنان عليها، رأت والديها عند الباب بأعين دامعة ينظران إليها. دخلت، وإذا بالطبيب يحمل الورد، يجلس عند قدمها قائلًا: «أتقبلين الزواج مني؟»

تتفاجأ، تنصدم، لتقول: «لا، لا أريد شفقة أحد». لترى في عينه دمعة حب لم ترَ مثلها في حياتها قط. استشعرت ذلك الحب في جوارحها، قائلة: «مع هذا النقص تريدني وأنت بهذا الكمال؟»

ليرد عليها: «لا يوجد نقص، بل حياتي الناقصة من دونك. لا يُقال عن النقص في الأعضاء، إنما إذا لم يكمل معك من تمنيت قربه حياتك، فذلك هو النقص والعجز الذي يصعب أن يُبدل أو يُعوِّض أو حتى يتم إصلاحه».

لتلتفت إلى والديها، تجدهما مجهشين بالبكاء، لتقول: «نعم، قبلت الزواج منك».

وقد تزوجت الطبيب، وأنجبت طفلين جميلين، طفلين أضافا إلى حياتها أجمل المعزوفات والألوان. ما زالت تكتب مذكراتها على ذلك الدفتر، الذي صفحاته وردية، قائلة: «لم أعد أشاهد حياتي باللون الأبيض والأسود، حياتي الآن مثل ألوان قوس قزح، مليئة بالألوان والجمال. أصبحت أجمل مما كنت أتوقع. لا يأس ولا نقص مع الحب، فالحب لا يعرف النقص، لا يعرف العجز، يُكمل ما كان ناقصًا في حياتك، ويبدأ ما كان منتهيًا، ويُحيي ما كان بالنسبة لك ميتًا».

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.