"أَقَعْ أَهَعْ أَفُّوش" و"قِدِيرَة" مخلوقان مسطحان يقطنان في عالم مستوٍ غير موجه. في إحدى المرات أخبر أحدهم قديرة بأمر شديد الغرابة أثَّر فيها أيَّما تأثير، فقال لها إنه قد يحدث أن تصبح يمناها يسراها ويسراها يمناها من دون أن تشعر بذلك. لم تصدق قديرة ذلك، وانطلقت إلى حيث الرجل الذي أحبته من أعماق قلبها المسطح لتخبره بالحكاية. وما كان هذا الرجل سوى أَقَعْ أَهَعْ أَفُّوش المشهور محليًّا بتأملاته شديدة الغرابة. ولقد سخر من تصرفاته أُناس كثر، واتهمه بعضهم بالجنون. بيد أن الغالبية من الناس حكمت عليه بالخلط بين الحقائق الواقعية والوهم، بل وصنَّفه أحد أطباء النفوس من بين المصابين بمرض الذهان.
وعلى الرغم من كل هذا الكم من الاتهامات التي لا يُعرف لها سند رصين، تعلَّقت به قديرة الفتاة اليافعة شديدة الجمال التي روَّجت عنها قريباتها من النسوة بدافع الحسد والغيرة وحدهما شائعات كثيرة تتعلق بسلوكها وذوقها في التهندم. ولم تكن هذه الشائعات صحيحة باستثناء شيء واحد، وهو أن هذه الفتاة كانت تحلم كثيرًا بالنجوم، متخيلة إياها كنقاط مضيئة معلقة في حافة العالم الذي تحيا فيه. علمًا بأنها كانت تجهل مثل غالبية الناس كثيرًا عن هذا العالم.
حيَّت خطيبها المسطح، الذي كانت تتوزع على مضلعه الخارجي نتوءات حادة لا حصر لها، ثم قالت: أخبرني يا أفوش، هل صحيح أن يدي اليمنى قد تصبح في لحظة من اللحظات هي يدي اليسرى والعكس؟ لا أفهم بصراحة لماذا قال لي أحدهم هذا الكلام!
فردَّ عليها أفوش، وقد انتابته الدهشة: من أخبرك به؟ فقالت بلا اهتمام يذكر: أحدهم. أنت تعرفه جيدًا. إنه من هؤلاء الذي يحاولون باستمرار أن يثبتوا للناس امتلاكهم لناصية المعرفة والحكمة. لم تتضح هوية الشخص المقصود لأفوش جيدًا، ومع ذلك قال: ما كان لك يا حبيبتي أن تهتمي بكلامه كل هذا الاهتمام. على أي حال، هل تعرفين لماذا أنت جميلة؟ فردت قديرة، وقد بدت عليها ملامح الاستغراب المفاجئ: أنت تريد بهذا السؤال الملاطف أن تبعدني عما أردت معرفته. ومع ذلك لماذا أنا جميلة في رأيك؟
فقال أفوش، وقد انتابته الحماسة: لأنك يا حبيبتي الغالية محاطة بمنحنى أملس لا عيوب به ولا تشوهات، بمنحنى شبيه بالدائرة. لقد حباك الله بهذه النعمة العظيمة. أما أنا، فأحشائي محاطة بمضلع متعدد الرؤوس. ولا أعرف إن كان ذلك يروق لك حقًّا؟ فأجابته قديرة ملاطفة: أنت تعرف يا حبيبي الغريب الأطوار أني أحببتك حبًّا خالصًا، وأظن أن هذا يرضيك ويسعد قلبك.
فقال أفوش ضاحكًا: هل تعرفين أنه يمكن أن يسرق منك قلبك من دون أن تشعري، أقصد من دون أن تُجرى لك عملية جراحية ما؟ فاستبد التعجب مجددًا بقديرة، وقالت: ها قد عدت إلى طبعك يا أفوش. أخبرني يا حبيبي الذكي كيف يستطيعون إخراج قلبي من داخلي من دون إجراء أية عملية جراحية لي؟ فقال أفوش: لكي تفهمي ذلك، ينبغي أن تستوعبي قليلًا من المعلومات الخاصة بالهندسة. وعمومًا سأشرح لكِ كل شيء في لقاءاتنا القادمة. عليك بالذهاب الآن يا عزيزتي إلى منزلك لترتاحي.
ثم واصل حديثه بنبرة ملاطفة: أنت يا فتاتي الرائعة من جعلتِني أنسى نتوءاتي القبيحة، ودفعتِني إلى التفكير في عوالم أكثر غنى وثراءً واتساعًا من عالمنا المسطح الذي نحيا فيه الآن. ومن يدري؟ فقد ينشئنا الله من جديد في أحد هذه العوالم الغنية بالجمال. ظلَّت قديرة منصتة بهدوء ومن غير فهم يذكر على ما يبدو. وافترق الخطيبان المسطحان على أمل اللقاء مجددًا.
بعد مرور يوم أو يومين التقى أفوش وقديرة مجددًا. وعاجلها قائلًا وابتسامة حقيقية تلون محياه: تأكدي يا حبيبتي أنه لا يمكن لأي مخلوق مسطح يعيش معنا أن يستخرج قلبك الجميل بلا عملية جراحية. فردت قديرة: إذن كنت تحاول إخافتي لا أكثر في المرة السابقة. فقال أفوش: لم أقصد هذا بالضبط. ولكني أعلم من الرياضيات التي بين أيدينا أنه إذا أمكن لمخلوق مسطح يعيش معنا أن يبصر بطريقة ما بعدًا ثالثًا وأن يستخدمه دون عوائق، فقد يتمكن من سرقة كل عضو داخلي من أحشائنا من دون أن يتمكن أي واحد منا رؤيته أو الشعور به. والسبب هو أنه يفعل ذلك في عالم لا يأتينا منه ضوء ولا أمواج جاذبية ولا أية إشارات فيزيائية يمكن رصدها.
فتعجبت قديرة من هذا الكلام الذي تسمعه أول مرة في حياتها، ثم قالت: وماذا أيضًا يا أفوش؟ فازدادت رغبة هذا الأخير في الشرح، وتابع قائلًا: يمكن لهذا المخلوق أن يشاهد بطوننا وظهورنا التي لا نعرف عنها شيئًا؛ لأنها لا ترسل إلى عالمنا المسطح أية إشارات فيزيائية قابلة للرصد. ويحتمل أن تكون بطون وظهور بعضنا جميلة ومتناسقة وبعضها الآخر قبيح. وقد تكون ملونة بألوان زاهية. ولا يمكننا رؤية ذلك إلا بالمرور عبر البعد الثالث. ولا توجد لدينا في اللحظة الراهنة أية دلائل فيزيائية على وجود مثل هذا البعد. ونحن نتصرف فقط على ضوء ما تخبرنا به الرياضيات التي بين أيدينا.
ردَّت قديرة وملامح الدهشة بادية بوضوح على محياها الجميل: يا إلهي أحلم طوال حياتي بالنجوم، وأراها أجمل الأشياء في الكون، وأسمع منك الآن عن عالم خفي قد يكون جميلًا جدًا، ولكن يستحيل علينا حسبما تقول رؤيته والتواجد فيه.
قال أفوش الذي لاحظ علامات التأثر بادية على ملامح خطيبته: ألم تشتاقي يا حبيبة قلبي إلى الكلمات الساحرة والمثيرة للخيال، وإلى الحديث عن العطور الرهيفة والغرف والألبسة المُدلَّلة. أنسيتِ ذكر الحلي ذات الرنين الخاص والمنيرة بدفء في الظلام؟ تراقصت عينا قديرة بنظرة صريحة وبريئة كالعادة، وأصبح وجهها حقيقيًا ومليئًا بالقلق العذري، وقالت لأفوش بصوت خفيض شيئًا مطيعًا وملاطفًا، ثم رجته أن يحدثها أكثر عن العالم الذي يحيا فيه الناس.
فقال أفوش: نحن نعيش يا حبيبتي في كون مسطح ذي بعدين وغير قابل للتوجيه حسب الرياضيات، كون شبيه بسطح وصفه عالم ألماني اسمه أغسطس فرديناند موبيوس في العام 1858، وقد أصبح هذا السطح يعرف من حينها باسم شريط موبيوس. كل الحسابات الرياضية والمشاهدات الفلكية دلَّت بما لا يدع مجالًا للشك بأن كوننا المسطح يحوي منطقة يتغير فيها توجيهه الرياضي تغيرًا كليًا؛ بمعنى أن يمين المار بهذه المنطقة يصير يساره، ويساره يصير يمينه. يحدث له ذلك من دون أن يشعر به. وهذا بالضبط ما حدَّثك عنه ذلك الشخص.
وهنا قاطعته قديرة: هذه أمور تستعصي على الفهم يا أفوش. أخبرني أكثر عن هذه المنطقة الغريبة؟ قال أفوش: الأمر معقد قليلًا. يتفق غالبية علماء الكون على أن سطحنا الذي نعيش عليه نشأ منذ نحو 13.77 مليار سنة بواسطة عملية انفجار عظيمة لا يُعرف عنها شيء. كان المكان كله وما احتوى عليه نقطة واحدة، ولم يكن الزمن قد وُجد بعد. وعلى هذا الأساس لم يكن هناك قبل لهذا الوضع. بدأ العد الزمني وانفجرت النقطة المكانية وتوسعت بسرعة هائلة، مُولِّدة في ثوانٍ ما نعده جنين كوننا المسطح الحالي. إنها عملية خلق قدَّرها الله لا ولن نعرف عنها شيئًا، إذ لا يمكننا من حيث المبدأ تصور وجود معادلات فيزيائية بمقدورها وصف حالة تلك النقطة المكانية البدائية ذات الكثافة اللانهائية. حتى قوانين التوبولوجيا لا تسمح لنا بفهم كيف نشأ سطحنا الشبيه محليًا بالأسطوانة من نقطة مكانية واحدة لا أبعاد لها. ويُعتقد أن تلك المنطقة الغريبة التي سألتني عنها ظهرت منذ البداية على السطح الجنيني. وقد تكون قد نشأت في لحظات لاحقة. نحن نعرف كيف ننشئ رياضيًا تلك المنطقة على سطح أسطواني صغير، لكن عمليات الرصد التي أُجريت حتى الآن لم تعطنا دليلًا على حدوث شيء كهذا.
بدأت ملامح الذهول تظهر على وجه قديرة، وربما خانها الفهم قليلًا، فقالت: يصعب عليَّ تقبل وفهم هذه الأمور التي تتحدث عنها يا أفوش. فرد عليها: ليس مطلوبًا منك ذلك يا حبيبتي. نحن لا نفهم كل شيء عن سطحنا. لا نعرف إن كان محدودًا أم لا، ولا نعرف كاملًا طبيعته الهندسية. كل ما نعرفه عنه هو أنه يتوسع، ويتسارع في توسعه، وأن عمليات خلق المادة والطاقة والمكان والزمن لا تزال جارية فيه، ولم تتوقف منذ نشأته. ويقدر علماء الفلك أن حدود سطحنا المرئي تبعد عنا بنحو 46.5 مليار سنة ضوئية.
تنهدت قديرة، التي خانها الفهم قليلًا، وقالت: لا خيار لنا يا أفوش. خلقنا الله هكذا، ومنحنا طريقة خاصة بنا للعيش. أليس كذلك يا حبيبي الذكي؟ فأجاب أفوش: بالطبع. نسيت أن أخبرك يا قديرة أن تلك المنطقة الغريبة تبعد عن أرضنا بنحو 26 ألف سنة ضوئية، وأن انحناء سطحنا في المناطق القريبة منا يكاد يساوي صفرًا. لذلك فهو يشبه كثيرًا المستوى الذي حدثنا عنه إقليدس. ولا يمكن لظاهرة تحول اليمين إلى اليسار وتحول اليسار إلى اليمين أن تحدث في النواحي القريبة منا. ألا يريحك هذا يا عمري؟ كان صوت أفوش حقيقيًّا في هذه اللحظة، كان هو ذاته الشخص الذي يتوقعه الجميع. فردت قديرة مرحة وسعيدة: ما يريحني حقًّا في هذا العالم هو وجودك معي وإلى جانبي.
بعد أشهر قليلة من هذا اللقاء، تزوج الخطيبان المسطحان، وانساب الحب بينهما ببطء في عزلة مريحة؛ آهات، كلمات مثيرة للعاطفة والخيال، موسيقى، ليالٍ مقمرة سطحية، وما إلى ذلك.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.