تظل القصص التي نسجها الأدب والشعر عن الحب الأسطوري مصدرًا دائمًا لذلك الشعور المتأرجح بين الأمل والريبة. كأن هذه الحكايات مخبأة في رفوف مكتبات الزمن لتغذي الأرواح التي تفتش عن شيء أعمق من الواقع.
بين نزار وشوقي
بين صفحات نزار قباني، يتجلى الحب مشتعلًا، مفعمًا بالجمال المؤلم، وكأن الكلمات تنبض من الجراح؛ تُقدِّس الأنثى وتمنحها صفة الكمال، فتبدو كحلم دائم التوهج، عاطفة معلقة بين الخلود والزوال.
وأحمد شوقي لا يبتعد عن تلك الرؤية، إذ يجعل الحب قضية سامية، كأنه امتداد للبطولة في عالمٍ لا يهاب الألم. ومع كل كلمة يرددها، تجد شيئًا من الانصهار في وهم المشاعر الطاهرة، وكأنما الحب خُلِق ليكون غريبًا عن الواقع ومتجذرًا فقط في مخيلة المتأملين.
تزداد هذه الرؤية تعقيدًا حين نعود إلى مشاهد السينما العالمية. في فيلم "تيتانيك" يقف العاشقان على حافة النهاية، يحاولان بكل عزم تجاوز ما لا يمكن تجاوزه. تتحطم السفينة، ولكن مشاعرهم لا تزال طافية في الذاكرة، حب يبدو كفكرة تلامس الجنون، كعاطفة تبتلع الحياة والموت في الوقت ذاته، كأن الحياة قصيرة جدًا على احتمال وجودها.
أما قصص روميو وجولييت، فهي تجسد الحب الذي لا يعرف حدودًا، متمردًا على واقعٍ غامض، يكسر التقاليد ويمزق الأُسَر، ولا ينتهي سوى بمأساة تُحفر في التاريخ. كانت الفكرة تبدو مؤلمة، كأن الحب وُلد في صخب الأحلام وانتهى عند جدار صامت، بلا حيلة وبلا رحمة.
حب الطفولة والمراهقة يبدو كصفحة ممزقة من حكاية قديمة، كزهرة تفتحت بسرعة في ريح عابرة، ثم ذبلت تحت وطأة الواقع. في تلك البدايات، كانت المشاعر صافية كالثلج، لكنها كانت كذلك سريعة الزوال، تُحلق بين الحلم والرغبة، وتختفي حين تبدأ الحقيقة بالتسلل إلى الأعماق.
اقرأ أيضًا: ما تعريف الحب؟ وما علاماته؟
من باريس إلى روما
ومع التجوال في المدن الأوروبية، تتسلل الأجواء إلى عالم العشق، حيث تلتقي نظرات العشاق في حديقة التويلري في باريس، وتتشابك أيديهم بين أزهارها التي تبتسم كأنها تُبارك هذا اللقاء. وعلى ضفاف نهر السين، تتدفق المشاعر كالمياه الهادئة، كأنما باريس تعبر عن شوق أبدي.
وفي إيطاليا، تتشابك القلوب في ساحة بياتزا نافونا، حيث يجتمع العشاق كأنهم في شعائر أزلية، يتبادلون الهمسات كأنهم يمضون بلا نهاية. أما في روما العتيقة، فيصبح الحب معقدًا بين الحجر القديم والأضواء الباهتة، فتُروى قصة غارقة في تاريخ بعيد، وكأن المدينة تُخفي حكايا لم تُفصح عنها.
اقرأ أيضًا: الفرق بين الحب والعشق وتعريف كل منهما
الحب من منظور آخر
ورغم كل تلك الصور التي يرسمها الأدب والشعر، يظهر شاعر مثل بابلو نيرودا ليعبر عن الحب من منظور آخر، يغمره الصمت والعمق، ولكنه لا يخلو من معانٍ غامضة وألم دفين.
يقول نيرودا في إحدى قصائده الشهيرة: "أحبك بلا معرفة كيف، أو متى، أو من أين، أحبك بلا تعقيدات، بلا كبرياء". تبدو هذه الكلمات، للوهلة الأولى، كأنها تصف حبًا مطلقًا، لكن في الواقع، هو حب مضطرب، ملطَّخ بهالة من الغموض. هو حب لا يعرف راحة البال ولا يدوم على أرض الواقع، كما لو كان اعترافًا بواقع الحب الذي نحمله في قلوبنا، لكنه يذوب كقطرات الندى تحت شمس الحقيقة. هو حب يحترق في صمت، يتغذى من أوهامنا، ليذوب في النهاية كأطيافٍ خافتة في ضوء شمسٍ لا تترك أي ظل للآمال الكبيرة.
اقرأ أيضًا: أنواع الحب عند الإغريق.. تعرف عليها الآن
هل للحب وجود فعلًا؟
مع ذلك، يأتي السؤال الحارق: هل للحب وجود فعلًا؟ أم أن تلك العواطف مجرد فخاخ نحاول التسلل إليها هربًا من وحدتنا القاسية؟ تتبدد الوعود والكلمات التي كانت تبرق بالأمل، وتظهر كسراب صحراوي يختفي كلما اقتربنا منه، تاركة خلفها فراغًا لا يشبعه أي وعد.
بامتعاض يزداد إيلامًا، تبدو تلك القصص الملحمية التي لطالما اعتقدنا أنها تملك جزءًا من الحقيقة، مجرد أكذوبة، خُدعة صنعتها خيالاتٌ تأبى الاعتراف بأن الحب ليس سوى وهم زائف، يلف أرواحنا بكذبة مؤلمة ولكن ساحرة. يمر الزمن، وتذبل كل وردة قيل إنها ستدوم للأبد، حتى الشغف ذاته يصبح عبئًا حين يتلاشى بريقه، وعندها تفتح الحقيقة فمها كالهوة، لتبتلع كل الذكريات، لتدركنا كأننا عالقون في وهم جماعي.
ومتى ما عدنا إلى واقعنا، نجد أنفسنا في حالة من الفوضى، نكتشف أن ما نعتقده حبًا لم يكن سوى استغلال متبادل، فقد استغل أحدنا الآخر للوصول إلى رغبته، تاركين خلفنا مشاعر مُحطَّمة وخيبات أمل. نعيش في فقاعة من الأوهام، نُخدع بلحظات السعادة، في حين لا نفكر في العواقب، لنُفاجأ في النهاية بمدى قسوة الواقع الذي كنَّا نغض النظر عنه.
اقرأ أيضًا: ما أسباب تقلب المشاعر في الحب؟
الحب.. سعادة لحظية!
إن الذين يؤكدون أن السعادات لحظية هم الستويكيون (Stoics)، الفلاسفة الذين يتبنون نهجًا يركز على ضبط النفس والتفكير العميق، يرون أن تلك اللحظات العابرة ليست سوى نشوة زائفة. وفقًا لفلسفتهم، الحب والشهوات لا تتجاوز كونها تجارب مؤقتة، لحظات من السعادة العابرة التي تتلاشى سريعًا، تمامًا كما يحدث مع أي نوع من المخدرات التي تعطي شعورًا مؤقتًا بالسرور.
في هذا السياق، يشبهون هذه المشاعر بتعاطي المخدرات الهرمونية، فترفع مستويات الدوبامين في الدماغ، وهو الناقل العصبي الذي يسهم في الشعور بالسعادة واللذة.
هذا الارتفاع المفاجئ في مستويات الدوبامين يغمرنا في حالة من الانتشاء والهيام، ما يجعلنا نعيش في فقاعة من السعادة الوهمية، بعيدًا عن الحقائق المرة التي تحيط بنا. في تلك اللحظات، نشعر وكأننا نعيش في عالم آخر، فتختفي المخاوف والهموم، ويتلاشى الألم، لكن ما إن تنخفض مستويات الدوبامين، حتى نجد أنفسنا مرغمين على مواجهة الواقع من جديد. حينها، تعود لنا مشاعر الوحدة والفراغ.
ونبدأ بإدراك أن تلك اللحظات ليست أكثر من هروب مؤقت، فيصبح وعينا مشدودًا إلى الحقائق التي حاولنا الهروب منها التي تكشف لنا عن هشاشة السعادة التي بنيناها على أسس غير مستقرة.
يقول سينيكا: "لا تدع لذة حاضرة تعمي بصيرتك عن الألم الذي سيأتي لاحقًا." فالحب، كما يُصوَّر في الروايات، يمكن أن يكون مجرد وهم يُصنع في خيالٍ مثالي، مع أنّ في الحياة اليومية يكون التفاهم والصداقة هما ما يحتاج إليه المرء حقًا، بعيدًا عن العواطف القوية التي تتلاشى بسرعة.
اقرأ أيضًا: الحب الصادق.. تعرف على شعراء الحب وكتاب طوق الحمامة
هل الحب فعلًا يستحق كل هذا العناء؟
في النهاية، يُظهر لنا كل هذا أنه، ربما، ليس من الجيد أن نبحث عن الحب كما هو مُصوَّر في الأساطير، بل قد يكون من الأفضل أن نتقبل أن الواقع مختلف تمامًا. الحب، كما نراه في الروايات والقصص، غالبًا ما يقودنا إلى خيبات أمل متكررة. نحن نعيش في عالم تسود فيه العلاقات السطحية، فنكتشف بعد فوات الأوان أن ما كنا نعده حبًا لم يكن سوى رؤى مضللة، وشضايا خيبات وأوهام.
تتحول تجاربنا العاطفية إلى فخاخ نتساقط فيها، فنستمر في البحث عن الرضا في مكانٍ نعلم أنه خادع. وكما قال الفيلسوف إيفان ت. س. إليوت: "لا تدع الأشياء التي لا تملكها تعكر صفو الأشياء التي تملكها". هذه الحكمة تذكِّرنا بأننا غالبًا ما ننغمس فيما نفتقر إليه، لنكتشف أننا نغفل عن تقدير ما لدينا.
وفي خضم هذا الصراع، نجد أنفسنا عالقين بين التطلعات والواقع المرير، حيث يبدو أن الحب دائمًا ما ينتهي بألم وعزلة. لذا، لنُدرك أن التجربة الإنسانية في النهاية قد تكون أكثر تعقيدًا وأقل رومانسية مما نتمنى؛ ما يدعونا للتساؤل: هل الحب فعلًا يستحق كل هذا العناء، أم أنه مجرد وهم يلف أرواحنا بكذبة مؤلمة؟
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.