لقد غادر الشتاء باكرًا في ذلك العام، فاتحًا أبوابه لربيعٍ مزهرٍ وغلالٍ يتوق لها الفلاحُ وينتظرها بفارغ الصبر. أعلن الصيف القدوم، ولبست الشمس عباءة الحر، وتزخرفت الأرض باللون الذهبي ابتهاجًا للحصاد.
شمَّر الجميع عن سواعدهم لنيل المحصول. الجميع يعمل، والعمل ليس حكرًا على الكبار من الذكور ولا حتى الإناث، فمفهوم العمل لا يرتبط بعمرٍ ولا بجنس.
أُنجِز العمل وأصبح المحصول بيدرًا ضخمًا، ينتظر الدَّرس، وهو فصل نواة القمح عن قشرتها، ما ينتج لدينا مادتين وهما القمح والتبن…
كنتُ في العاشرة من عمري حينها، كان يومًا شاقًا بمفهومي المتواضع عن الشقاء. على الرغْم من حداثة سنِّي، كنتُ مدركًا لذلك التعب، ولكن التعب آنيٌّ يزول في غمضة عينٍ بين إخوتي في بيتنا المتواضع في المساء.
شارفت الشمس على المغيب، وأعلن أبي العودة إلى البيت، وطلب من الجميع تحضير الأغراض للعودة. شعرتُ بالفرحة لانتهاء ذلك اليوم المتعب، فأخذتُ أنافس إخوتي في جمع الأغراض للحلول إلى الراحة.
أسرع أبي بتغطية المحصول بكيسٍ بلاستيكيٍّ كبير. بدأ الظلام يأتي من الشرق، وكنتُ أنظر إليه تارةً، وتارةً أخرى إلى أبي. متى نذهب إلى البيت؟ فقدماي ما عادتا تحملانني من التعب.
سمعتُ أبي يحدِّث أمي:
- "لا بد من حراسة هذا المحصول، لأن السرقات منتشرة. ألم تعلمي ماذا حدث بمحصول أبي خالد قبل أسبوع؟ لا بد أن يبقى أحدٌ للحراسة لغدٍ كي نقوم بتعبئته ونقله إلى البيت."
حدَّق أبي بالجميع، لا أعلم بمَ يفكِّر وكيف يفكِّر في تلك المسألة. أدركتُ حينها أن من تقع عليه عينا أبي سوف يكون حارسًا هذه الليلة. كم كنتُ خائفًا أن يقع ذاك الحكم على قلبي الصغير! ولكن إرادة الله شاءت أن أكون أنا وأخي الذي يكبرني عمرًا بأربعة أعوام أبطال هذه الليلة.
بدأ أبي بفرض توصياته لأخي الأكبر، وأنا مستمع يقظ:
- "لا تغادر المحصول، وابقَ يقظًا مثل الذئب، وإيَّاك أن تخاف، فأنا تاركٌ ورائي رجالًا. وهذا غطاءٌ بلاستيكيٌّ لك ولأخيك."
قال أبي:
- "تعال معي، ستحضِّرُ أمك طعامكما."
غادر أخي مع أبي في تلك المهمَّة، وتركني خلفه أُصارع لحظات الوحدة بين أكوام القشِّ والحصيد. أخذتُ أسلِّي نفسي باللعب بالحصى وأُقلِّب الحجارة من حولي لاكتشاف المكان. كانت تلك لعبةً مع أصدقائي في الماضي لاكتشاف الحشرات والأفاعي التي ترقد تحت الحجارة، ويبدو أنَّ الحذر كان يلازمني على الرغم من حداثة سنّي.
فرش الظلام رداءه في تلك اللحظات، وأخي لم يأتِ بعد. بدأت تراودني أفكارٌ مزعجة: (قد لا يأتي، لعلهم نسوني، لعله اعتمد عليَّ وحدي في تلك المهمة!)
لا، لا، أبي أكَّد أن كلينا لتلك المهمة، فأنا صغيرٌ لا يعتمد عليَّ في ذلك، كم هو صعبٌ الانتظار!
وكم كانت تبعاته مؤلمة لطفلٍ وحيدٍ جثا على كاهله مسؤولية ذلك الحدَث! لم يخذلني أخي، رأيتُ ظلاله من بعيد يترنَّح بين كرم الزيتون المجاور لمحصولنا. تغيَّرت قسمات وجهي للأفضل، وشعرتُ بتدفق الدم في قدميَّ، وهدأت نبضات قلبي، ورُسِمتْ الابتسامة على وجهي. لا شيء يشبه سعادتي في تلك اللحظات.
تناولنا العشاءَ وأشعلنا النار، كانت النار متأججة وتشتعل بسرعة، كما هي مشاعري في تلك اللحظات، تبادلنا أطراف الحديث بلغة الطفولة، كم كان شاقًّا ذلك اليوم!
كنتُ أنظر إلى أخي بكل ثقة، وأبتسم وأُخفي الخوف في ثنايا جسمي، وأُعلله بأنني لستُ وحيدًا.
كان خيال وجهه كبيرًا، والنار تشع في وجهه. لم يسعفني وعيي حينها، فأخذني ذاك الخيال إلى أسطورة "إنجانجو" الهندية في فيلمٍ كرتونيٍّ ما فارق مخيلتي في الليل الدامس. جعلتُ أتتبع الخيال وأربط تفاصيله بتفاصيل تلك الشخصية. انقبض قلبي برهةً، وانتابتني قشعريرة، فشرعتُ بالحديث مع أخي لأفنّدَ ذاك الخيال.
قارَبَ الليلُ على الانتصاف، ولم يفارق نباح الكلاب أذنيَّ، وصفير الحشرات في سيمفونية لا تنقطع. تحرَّك أخي لينطلق في جولةٍ حول المحصول، فلحقتُ به ولسان حالي يحدثني: لا تتركني وحيدًا وسط هذا الحصيد!
النوم لم يحدثني بعد، وكيف يحدثني وهو خارج حدوده الروتينية؟! بدأ أخي بالتثاؤب. لا، لا، أعتقد أنَّ الأمر روتيني. قد يبدو صدفة، لستُ واثقًا مما أفكر به، لعله نقص الأكسجين أدى إلى ذلك.
لم تدر في مخيلتي فكرة أن أخي لا يشبهني، وهل يستطيع النوم في العراء كما تفعل الدواب في حضيرتنا؟ لم يخطر ببالي أنَّ أحدًا يستطيع النوم بلا سقفٍ يعلو رأسه، ولكنَّه واقعٌ يبدو أنَّه فرض نفسه عليَّ قسرًا هذه الليلة.
أصبحت مسألةُ نوم أخي حاجةً ملحَّةً، هذا ما شاهدتُه عندما بدأ بفركِ عينيه ويقبض يديه ويرجعها إلى الخلف مع إخراج الصوت من فمه. يبدو حتمًا أنَّه سينام، قال لي:
- "سأنام أنا هنا وأنت هناك بجانبي، ويفصلنا كيسٌ معبَّأٌ بالشعير نسيه أبي عند المغادرة. غطاؤك سيكون ذلك الكيس البلاستيكي (الشادر)، أحضره، سيكون غطاءك هذه الليلة وفراشك التراب."
وأخذ يضحك بصوتٍ عالٍ، يبدو أنَّه سعيدٌ بتلك التجربة. يبدو أنَّ المراهقين أكثرُ تحدِّيًا لإثبات الذات أمام الأقران، سيحدِّث رفاقه في الصباح عن تجربته المخيفة وكيف تجاوزها على الرغم من مرارتها وتحدّياتها. لا شأن لعالمي الداخلي في ذلك، فأنا أصغُرُهُ سنًّا، وأقراني لا ينامون في الخلاء…
توسَّد كنزته الصوفية، وجلب غطاءهُ البرتقاليَّ ذو الصوت المزعج، وبدأ بالشخير. ما أسرع نومه، وكأنَّه يحرِّك النوم بأصابعه ويرديه ذبيحًا بين عينيه! لم تدرك عيناه قبح ما تركت خلفها. يبدو أنَّ تعبه الجسدي لم يترك قيد أنملة لعقله كي يقلق أو يتخيَّل أو يحرس.
يبدو أنني بطل الظل والعتمة واليقظة والقلق هذه الليلة، شعرتُ أنني أُصارع من أجل البقاء بقلب طفلٍ أمانيه فراشٌ دافئٌ بين كبارٍ وجب عليهم الرعاية، وجدرانٌ لا أعلم ما خلفها من عثرا
ها نحن ما بعد منتصف الليل، سكن كلُّ شيء، وتوقدت عيناي سهرًا. أصوات الحشرات ما انفكَّت عن أذنيَّ، ونسيم الصيف ممزوجٌ برائحة التراب.
أنظر إلى أخي مع أمنياتي له بالاستيقاظ، لعلَّه يسلِّي ما يقلقني. أغمضتُ عينيَّ كمحاولةٍ أولى للانسجام مع النوم. أغمض وأفتح، لا شيء يغلب سلطان النوم إذا أتى، ولكن ليته يأتي! أغمضتُ ثانيةً، لعله يزورني ويعطف، ولكن واقع الأمر خلاف ذلك، تكرار بلا جدوى.
سمعتُ صوت قطٍّ خلف المحصول، خطفتني الذاكرة لحظتها لأربع سنوات خلت من عمري، كان عمري ست سنوات أو سبعًا حينها. كان يتجول في حيِّنا قطٌّ أسود قاتم اللون، فضربته من بعيدٍ بحجرٍ لم يخطئه، فأصبته في رجله، كانت الضربة عبثية بلا هدف، كان معي صديقي حينها، نظر إليّ:
- "أمجنون أنت؟ أتضربُ قطًّا أسود؟ ليلتك سوداء كسواد هذا القط!"
سمعتُ عمِّي يقول:
- "إنَّ القط الأسود ليس حيوانًا، بل هو من العالم الآخر (الجن)، يضرب الإنسان إذا ضربه في الليل، يأخذُ حقَّه منك في الليل، فانتظر ذلك!"
وكأنَّ قول صديقي حينها كان أشبه بالحقيقة. في مساء ذلك اليوم، في لحظة غفوةٍ عند غروب الشمس من تعب اللعب في شوارع الحي، أغمضتُ عينيَّ وكأنَّ أربعةً حملوني. لم أستطع تحديد أشكالهم، مصطحبينني إلى قاع الأرض، مردِّدين بصوت واحد:
- "سوف نزوجك من عالمنا!"
بأصواتٍ مرعبة، وقهقهاتٍ مرتجفة. صرختُ حينها بصوت عالٍ! فزعت أمي، وحكيتُ لها ما رأيت، قالت لي:
- "استعذ بالله، هذا كابوس، ولا تنم في ذلك الوقت بعدها، مكروه هذا الوقت للنوم…"
ازداد الأمر سوءًا في تلك الذكرى المخيفة. ما زال شكل القط الذي ضربته ومكانه يجول في مدارات شعوري الآن، وسط بيدرٍ لا يعقل، ونائمًا في نومته السابعة لا يبالي لتلك الخواطر التي تجتاحني. ألا تقترب أيها الصباح؟! أشعر أنَّ الوقت هنا كالسلحفاة، تستريح أكثر مما تمشي.
لا بدَّ من فعل شيءٍ كي يمضي الوقت. أُحدِّق بالسماء والنجوم. لم أقم بعدِّها خوفًا من الثآليل! كم هي بعيدةٌ تلك النجوم، ولكنني أراها في جماعات متقاربة. هل تنام مثلنا؟ أم تبقى مستيقظةً تنير لنا السماء؟! لا تخاف من الظلام، فهي مُنارة…
أتقلَّب على جنبيَّ، لعلني أمسك خيطًا للنوم هائمًا فوق عينيَّ. تفاصيل الأرض غير مريحة، أشعر بأنَّ الحصى تحتي ينخر في عظامي في كل حركة أقوم بها. ما هي إلا لحظات حتى شعرتُ بسكينةٍ تحيط بذلك المكان، لم أستطع تفسيرها، لا أعلم ماذا حلَّ بجسدي.
يبدو أنَّ سلطان النوم قيَّدني وجثا على جفوني كغيمةٍ سوداء أفقدتني الزمن. لا خوف ولا قلق عبر النوم، أنت في عالم الأحلام.
داعبت الشمس قسمات وجهي بوهجها الصيفي.
"قم يا أخي، طلع الصبح!"
تنفستُ الصعداء، وباغتت شفتاي ابتسامة.
ما أجمل الصباح! والضياء!
بدأتُ بالركض نحو بيتنا أسابق الريح، لقد دبَّ الدم في عروقي، كم هو رائعٌ ذلك الفخر الذي لازمني منذ الصباح! سأحكي ما رأيتُ وتخيَّلتُ لأمي، لأصدقائي، لأولاد الحي، وللقارئين الآن…
ابدعت النشر
حقا لا أجد ما أقول عن مدى اعجابى بهذة القصة
لقد اخذتنى بعفوية
إلى هذا العالم الجميلة.
رائع جدا 🙏❤
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.