الجملة الثقافية وتحليل نقدي للأنساق المضمرة في الأدب العربي

تُعد الجملة الثقافية مفهومًا محوريًا في النقد الثقافي، فهي الأداة التي تسمح لنا بالحفر تحت سطح اللغة الظاهر لاكتشاف الأنساق المضمرة التي تكوِّن وعينا وتوجه خطابنا دون أن نشعر. إنها تكشف كيف أن الثقافة لا تتكلم فقط بالنصوص الكبرى، بل تتسرب أيضًا إلى أصغر الوحدات اللغوية، لتحول جملة عابرة إلى شاهد على صراعات فكرية وعقائدية وسياسية كبرى.

في هذا المقال، نستعرض الإطار النظري لـلجملة الثقافية، ونقدم تحليلًا أدبيًا لنماذج من التراث العربي تكشف عن هذه الأنساق الخفية، ثم ننتقل إلى تطبيق هذا المفهوم على خطابنا المعاصر، لنجيب عن سؤال: كيف تتحدث الثقافة على ألسنتنا؟

مصطلحات نقدية

  • النقد الثقافي: منهج نقدي لا يركز على جماليات النص الأدبي فحسب، بل يحلل الأنساق الثقافية المضمرة (الخفية) التي ينتجها النص أو يكشف عنها.

  • النسق المضمر: مجموعة الأفكار والقيم والمعتقدات الخفية التي تنتجها الثقافة وتعمل داخل النصوص دون أن تكون معلنة صريحًا.

  • الجملة الثقافية: هي الجملة التي تتجاوز معناها النحوي المباشر، لتصبح حاملة لنسق ثقافي كامل ومكثف.

من الجملة النحوية إلى الجملة الثقافية (الإطار النظري)

يميز النقد الثقافي بين ثلاثة أنواع من الجمل:

  1. الجملة النحوية التي تتكون من ألفاظ وتراكيب وعلاقات ووظائف نحوية تؤدي معنًى وترتبط بدلالة صريحة مباشرة؛ أي بوظيفة تواصلية.

  2. الجملة الأدبية التي تتجاوز الوظيفة التواصلية إلى وظيفة جمالية فنية، تكون الدلالة فيها ضمنية غير مباشرة.

  3. الجملة الثقافية التي تحوِّل الجملة إلى أداة تقودنا من النص الأصغر «الكلام» إلى النص الأكبر والأشمل وهو النص الثقافي وما تتقاطع فيه من أنساق مختلفة.

ثم إن الكلام قد ينتج ثقافة، فإن الثقافة تنتج نصوصها وتتكلم على ألسنتنا؛ لذلك يرى عبد الله الغذامي في كتابه «النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية» أن مؤلف الكلام مؤلفان: مؤلف فردي وهو المعهود والمعلن والمكشوف، ومؤلف ثانٍ رمزي يتجسد في الثقافة الكامنة فينا وهو مؤلف مضمرٌ أو نسقيٌ، يقول عنه د. الغذامي: «هذا المؤلف المضمر هو الثقافة..». ويضيف: «إن المبدع يبدع نصًا جميلًا فيما الثقافة تبدع نسقًا مضمرًا». فكما أن المؤلف أو المتكلم يسهم في إنتاج الثقافة، فإنها تنتجه أي إنها تمارس سطوتها عليه وعلينا من خلال خطابه.

عبد الله الغذامي

وتتكون الأنساق الثقافية من اللغة والدين والعادات والفنون والقيم والأخلاق، وهي بذلك «المؤسسة» التي تتجاوز الأفراد إلى نوع من الوعي الجمعي أو الضمير الجمعي الذي يتحكم فينا بوعي منا أو دونه.

والخطاب أو الكلام، بل كل قول أدبي أو حتى غير أدبي ليس مجرد ممارسة لغوية فحسب، بل هو كذلك ممارسة اجتماعية وثقافية. فدائمًا هنالك ما يسمى «المتبقي» أو «الترسبات» في اللغة، وهي تعني كما يقول الفرنسي جون جاك لوساركل في كتابه «عنف اللغة»: ذلك «الجانب المظلم الخفي في النصوص. إنه ذلك الجزء المنفلت من نظام اللغة، المندسُ في خطابنا. وهي الشروط التي تفرضها علينا اللغة والثقافة لتتحول إلى لاعب رئيس بدلًا عنا..»

وبذلك لا يُفهم أي كلام باعتباره مجرد جملة نحوية أو أدبية أو خطابًا منطوقًا أو مكتوبًا، وإنما علينا أن نأخذ في الحسبان في فهمه ما يتضمنه من إحالات سياقية، أي درجة استحضاره لسياقاته؛ إذ يوجد تفاعل متبادل بين الكلام والموقف أو بين «المقال والمقام» كما يقول البلاغيون القدامى.

وعليه بإمكاننا أن نتساءل مع د. عبد الله الغذامي: ما إذا كان في الأدب مثلًا شيء آخر غير «الأدبية» أي الجانب الفني الجمالي؟ وهل في كلام أحدنا شيء آخر غير الأقوال والمعاني الصريحة؟

القضاء والقدر في شعر الغزل البدوي القديم: من تبرير العشق إلى ترويج مذهب التسيير والجبر

إن المقاربة الثقافية عمومًا وتجاوز حدود الجملة النحوية أو الأدبية إلى ما سميناه الجملة الثقافية من شأنهما أن يُوَسِّعا آفاق التأويل؛ لأنهما لا يَنظُرانِ إلى النص بكونه نتيجة للواقع أو كلامًا منقطعًا عن سياقه، بل يُقِيْمانِ بينه وبين الواقع علاقة جدلية أساسها التأثير والتأثر. ومثله الشاعر العربي القديم الذي يشبه ما نسميه اليوم «صناع المحتوى» أو «المؤثرين» من مشاهير المدونين. ذلك أنه لا يكتفي بالتأثر بثقافة عصره، ولكنه يحاول التأثير فيها من خلال «عطف القلوب على القيم» بالإشادة بها والترغيب فيها والدعاية لها.

وبناءً على هذا التصور يمكننا أن نستجلي بعض الجمل الثقافية في قصائد الغزل البدوي، لاسيما في القرن الهجري الأول. فحين احتدم الجدل بين المسلمين الأوائل حول فكرة القضاء والقدر، وانقسمت الآراء بين القائلين بالتسيير والجبر وبين القائلين بالحرية والاختيار ومسؤولية الإنسان عن أفعاله، انتقل تأثير ذلك إلى الشعر الذي يبدو للوهلة الأولى بمنأى عن هذه النقاشات العقائدية الدينية. غير أن قولًا للمجنون -قيس بن المُلَوَّحِ- يتحدث فيه عن تعلقه بليلى: «قضاها لغيري وابتلاني بحبها...» أو شبيهه لجميل بن معمر في تبرير عشقه لبثينة:

فيها قضى الله ما ترى علي . . . وهل فيما قضى الله من رد؟

يجعل هذا الشعر منخرطًا بقوة في ترسيخ فكرة الجبر والتسيير والدعاية لها ـ بوعي من الشعراء أو دونه ـ، خاصةً أنها فكرة استفاد منها حكام بني أمية آنذاك حين قدموا أنفسهم للناس على أنهم جزء من قضاء الله الذي لا راد له ولا اعتراض عليه، كما يذهب إلى ذلك أحمد أمين في كتابه «ضحى الإسلام» عندما يقول: «بنو أمية كما يظهر كانوا يكرهون القول بحرية الإرادة لا دينيًا فحسب بل سياسيًا كذلك؛ لأن الجبر يخدم سياستهم، فدولتهم بقضاء الله وقدره». وهو رأي يُؤكِّدُه د. علي سامي النشار في معرض حديثه عن تَكوُّن الفكر الإسلامي، إذ يقول: «أمر الخليفة الأموي عُمَّالَه في مختلف بقاع العالم الإسلامي بنشر فكرة الجبر الإلهي ليأخذ الناس بها..».

كتاب ضحى الإسلام

وبذلك نتبين أن تواتر حضور معنى القدر في تجارب العشق البدوي يُحوِّل كلام الشعراء إلى نسق ثقافي متكامل يتفاعل فيه الشعر مع مكونات ثقافية أخرى سياسية وعقائدية، ويلعب فيه الشعر أكثر من وظيفة.

حماسة ابن هانئ الأندلسي: هل هي مدح أم استحضار لعقيدة؟

في حماسة لابن هانئ الأندلسي «شاعر من شعراء المغرب الإسلامي في ق 4 هـ» مدح فيها المعز لدين الله الفاطمي، قال هذه الأبيات:

«ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار/فاحكم فأنت الواحد القهار»

«وكأنما أنت النبي محمد/وكأنما أنصارك الأنصار»

وهي جمل شعرية لا تكتفي بالثناء على الممدوح أو تشبيهه بالأنبياء والآلهة لتضخيم صورته والإعلاء من شأنه فقط، ولكنها تستدعي مذهبًا برمته وعقيدة بأسرها وتعيد إنتاج معتقد راسخ في المذهب الشيعي وتجسِّدُه في نموذج مرئي يحل فيه الممدوح محل الإمام المنتظر في معتقدات الشيعة الإسماعيلية والإمامية على السواء.

جدل العقل والنقل على لسان بخلاء الجاحظ في نوادره

من القضايا العقائدية والكلامية التي شغلت المسلمين الأوائل ذلك الجدل بين العقل والنقل الذي يبدو أنه فاض عن مجاله ليتسرب إلى نص من نصوص الهزل والفكاهة، هو «نوادر البخلاء» لأبي عثمان الجاحظ: فقد قال بخيل من البخلاء في معرض إعجابه بحديث رفيقه في البخل وثنائه عليه: «مثل هذا يكتسب بالرأي ولا يكون إلا سماويًا».

فظاهر الكلام تفاعل البخلاء فيما بينهم واحتجاج لمذهبهم في البخل، ولكن الجملة تختزل في ثناياها نسقًا ثقافيًا متكاملًا تجعل البخيل ينطق برأي كلامي يحل فيه معضلة التعارض بين العقل والنقل التي أرقَّت كبار المتكلمين؛ فقد جعل تجربة رفيقه في البخل «وهي استعمال ماء النخالة دواء للسعال» نموذجًا للتكامل بين هذين الحدين؛ فهي رأي وعقل من جهة، وهي أشبه بالوحي والإلهام السماوي. فلا تعارض في منطق البخيل ومن ورائه الجاحظ بين المعقول والمنقول فيما ينفع الناس.

نظرية «الكسب» الأشعرية في مقامات الهمذاني

نجد في المقامة الحلوانية لبديع الزمان الهمذاني هذه الجملة على لسان حجام مجنون هَمَّ بِحَلْقِ رأس البطل عيسى بن هشام ثم تعذَّر ذلك، فخاطبه قائلًا: «لا تشتغل بقول العامة. فلو كانت الاستطاعة قبل الفعل كُنتَ حلَّقتَ رأسك».
المقامة الحلوانية للهمذاني

وهي جملة تكاد تنفلت من سياقها الهزلي المقامي لتعيدنا إلى سياق الجدل الديني والعقائدي والكلامي الجاد، إذ تشير هذه العبارة إلى ما عُرف بنظرية «الكسب» التي مثلت حلًا ثالثًا وسطًا بين القول بالجبر والقول بالاختيار. وملخصها أن الله يخلق الأفعال ويخلق للإنسان القدرة على الفعل، وبذلك تكون إرادته نسبية ضمن إرادة مطلقة. فالاستطاعة هي القدرة الكونية الموجبة للفعل والتي تُمكِّن الإنسان من القيام به كما يقول الأشاعرة. وبذلك يكون الهمذاني قد أنطق مجنونه بجملة اختزل فيها أكثر من 3 قرون من الجدل العقائدي والفكري في قضية انقسم فيها المسلمون الأوائل إلى شِيَعٍ ومذاهب.

المفاضلة بين التشبيه والاستعارة: من الدرس البلاغي إلى رؤية للوجود

يقف الناظر في المدونة البلاغية والنقدية القديمة على ما يشبه الاعتراض على الاستعارة وتفضيل التشبيه عليها.

وقد نبهنا د. عبد الوهاب المسيري في كتابه «اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود» إلى أن هذا الانحياز لا يبدو مسألة ذوقية أو فنية أدبية بقدر ما يعكس رؤية للوجود. فالصور المجازية عنده ليست أدوات بلاغية فقط، وإنما هي وسيلة للتعبير عن تصورات ومواقف حضارية ووجودية، وفي ذلك يقول: «هنالك نموذج معرفي ورؤية للوجود كامنان وراء كل قول».

فعندما انحاز القدامى للتشبيه على حساب الاستعارة فلأنها في نظرهم تنطوي على معنى الحلول؛ فهي تعني إحلال عنصر محل آخر إلى درجة الاتحاد والتطابق بينهما، في حين في التشبيه يظل المشبَّه مفارقًا للمشبَّه به، محايثًا له؛ فهو من هذه الناحية أكثر انسجامًا مع فكرة التنزيه وأقرب إلى الرؤية التوحيدية للعالم وللوجود من الاستعارة. فالله وفق هذه الرؤية خلق الكون وظل منفصلًا عنه، حافظ على اتصاله بالعالم ولكن ليس لدرجة المطابقة؛ فهو قريب منا ولكنه لا يتماهى معنا ولا يحل فينا كما هو الحال في التصور المسيحي مثلًا، وكل شيء في هذه الرؤية «قاب قوسين أو أدنى» ولكن دونما تداخل.

وقد لخص د. المسيري هذه الفكرة في قوله: «جوهر النسق التوحيدي الإسلامي هو مفهوم المسافة الذي يُؤكِّدُ علاقة الاتصال والانفصال بين الخالق والمخلوق. فالله ليس كمثله شيء، ولكنه في الوقت نفسه أقرب إلينا من حبل الوريد».

وهكذا يبدو لنا في هذا العرض لنماذج مختلفة من الجمل والنصوص شعرًا ونثرًا ونقدًا أن «الجملة الثقافية» مصطلح في النقد الثقافي يقصد به تجاوز التراكيب النحوية الظاهرة والإيحاءات البلاغية المباشرة. إنها نوع من الجمل تتكوَّن في سياق ثقافي وتعتمد على أنساق مضمرة وخفية. هي نوع من أنواع «التناص» بمعنى تداخل نصوص شتى تتكثف في تعبير واحد، وعلى القارئ أن يفهم دلالاتها بأن يحفر عميقًا في طبقات من تكوُّن اللغة والأنساق الثقافية الأخرى.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.