على الرغم من أن مصطلح «التوحد عالي الأداء» ليس تشخيصًا طبيًا رسميًا؛ فإنه يستخدم على نطاق واسع لوصف الأفراد المصابين بـ«اضطراب طيف التوحد (ASD)» الذين يتمتعون بقدرات لغوية ومهارات حياتية أساسية تمكنهم من العيش باستقلالية. في هذا المقال الشامل، نتعمق في فهم «التوحد عالي الأداء»، بدءًا من أعراضه المميزة التي قد لا تكون واضحة دائمًا، مرورًا بعملية تشخيصه لدى الأطفال والبالغين، وصولًا إلى التحديات التي يواجهها هؤلاء الأفراد في المدرسة والعمل، لا سيما في مقابلات الوظائف.
وسنسلط الضوء على نماذج ملهمة لأفراد مصابين «بالتوحد عالي الأداء» حققوا نجاحًا باهرًا في مجالات متنوعة، ما يبرز إمكاناتهم الكامنة وأهمية توفير الفرص المناسبة لهم.
ما التوحد؟
التوحد هو اضطراب دماغي نمائي يتضمن عددًا من الأعراض ذات نطاق واسع من الشدة، يقع الأشخاص المصابون بهذا الاضطراب في مكان ما ضمن «طيف التوحد»، يعاني بعضهم إعاقة شديدة، في حين قد لا تظهر على آخرين سوى أعراض خفيفة، ويمكن أن تختلف مستويات الذكاء إلى حد بعيد.
مع ذلك -مدة طويلة- لم يُشخَّص التوحد إلا لدى الأشخاص الذين يعانون أعراضًا شديدة جدًّا، وابتداءً من تسعينيات القرن الماضي، جرى التعرف على أشكال أخف، بما في ذلك «متلازمة أسبرجر» التي تُسمى الآن التوحد عالي الأداء. ثم في عام 2013، صنَّفت الجمعية الأمريكية للطب النفسي جميع الاضطرابات المرتبطة بالتوحد ضمن فئة «ASD».
مع ذلك، قد تسمع بعض الأشخاص غير الأطباء يستمرون في استخدام مصطلحات مثل «متلازمة إسبرجر»، ربما لعدم إلمامهم بالطيف، أو ربما يشيرون إلى تشخيص أُجري قبل إعادة تسمية الحالة باضطراب طيف التوحد.
أعراض التوحد عالي الأداء
مثل جميع المصابين بالتوحد، يواجه الأشخاص ذوو الأداء العالي صعوبة في التفاعل الاجتماعي والتواصل، فهم لا يفهمون الإشارات الاجتماعية على نحو طبيعي، وقد يجدون صعوبة في تكوين صداقات، وقد يتوترون بشدة في المواقف الاجتماعية لدرجة الانغلاق على أنفسهم ورفض التواصل، ثم إنهم لا يتواصلون بصريًّا أو يتبادلون أطراف الحديث.
يمكن للأشخاص ذوي الأداء العالي من ذوي التوحد أن يكونوا شديدي الالتزام بالروتين والنظام، وقد تكون لديهم عادات متكررة ومقيدة تبدو غريبة للآخرين.
يوجد اختلاف كبير في كيفية تعاملهم مع المدرسة والعمل، بعضهم يتفوق في الدراسة، في حين يشعر آخرون بالإرهاق وعدم القدرة على التركيز.
يمكن لبعضهم الاحتفاظ بوظيفة، في حين يجد آخرون صعوبة بالغة في ذلك. كل هذا يتوقف على الشخص والموقف. ولكن حتى وفقا لشخص ذي أداء عالٍ من ذوي التوحد يمكنه القيام بكثير؛ فإن القاسم المشترك بين المصابين باضطراب طيف التوحد هو ضعف المهارات الاجتماعية.
تشخيص التوحد عالي الأداء
لا توجد فحوص طبية محددة لتشخيص اضطراب طيف التوحد، وعادةً ما يراقب الأطباء نمو الطفل وسلوكه مع مرور الوقت لتشخيصه رسميًّا. ويمكن للطبيب اكتشاف سمات اضطراب طيف التوحد لدى الأطفال بعمر 18 شهرًا أو أقل، وبحلول عمر السنتين، عادةً ما يتمكن الخبير من وضع تشخيص رسمي. ولكن في بعض الأحيان، يُشخَّص الأشخاص في وقت متأخر جدًّا، قد يكتشفون إصابتهم بالتوحد عالي الأداء في مرحلة الطفولة أو المراهقة أو البلوغ.
تتكون عملية تشخيص اضطراب طيف التوحد من ثلاثة أجزاء رئيسة:
مراقبة النمو
يواصل الآباء والأطباء مراقبة نمو الطفل للتحقق مما إذا كان يُظهر علامات ومهارات النمو المعتادة لعمره. في أثناء الفحوص الصحية مع طبيبك، قد يسألك عن نمو طفلك، وقد يتفاعل معك ويتحدث معك لفهم مستوى نموه.
فحص النمو
يُلقي هذا الفحص نظرة أعمق على كيفية نمو الطفل. هذا جزء طبيعي من فحوص الصحة العامة، حتى لو لم يكن لدى طفلك أي قلق بشأن اضطراب طيف التوحد. ويوصي الخبراء بإجراء فحوص النمو والسلوك للأطفال في عمر 9 أشهر، و18 شهرًا، و30 شهرًا، ويقترحون إجراء فحوص خاصة باضطراب طيف التوحد خلال فحوص الصحة العامة في عمر 18 شهرًا و24 شهرًا.
قد يقترح طبيبك أيضًا إجراء فحوص لطفلك في أوقات أخرى، إذا كان يوجد قلق. ستركز هذه الفحوص على حركة طفلك ومهارات التفكير والسلوكيات والعواطف واللغة.
التشخيص النمائي
سيجري طبيبك اختبارًا لطفلك للمساعدة على تحديد ما إذا كان لديه أي مجالات مثيرة للقلق قد تكون مرتبطة باضطراب طيف التوحد. في هذه الحالة، سيُعرض الطفل على اختصاصي، قد يشمل ذلك طبيبًا نفسيًّا للأطفال، أو اختصاصي أمراض النطق واللغة، أو طبيب أطفال متخصصًا في النمو، أو معالجًا مهنيًّا، أو طبيبًا آخر.
قد يُجري هذا الخبير تقييمًا رسميًّا لنمو طفلك. خلال هذه المدة، قد يجري الطبيب اختبارًا آخر لطفلك، أو طرح أسئلة عليك، أو قد يطلب منك إكمال استبيان لفهم نقاط القوة لدى طفلك والمجالات التي يواجه فيها مشكلات بشكل أفضل. ستساعد النتائج طبيبك في معرفة ما إذا كان طفلك يعاني حالة نمو.
وفقًا للبالغين، يختلف تشخيص اضطراب طيف التوحد قليلًا، وستحتاج إلى استشارة خبير مُدرَّب على تحليل وتشخيص كبار السن، وقد تختلف طريقة تشخيص الطبيب لكل شخص بالغ قليلاً.
في معظم الأحيان، سيسألك طبيبك عن حياتك الحالية، قد يتحدث معك عن كيفية تفاعلك مع الآخرين، وما إذا كانت لديك أي سلوكيات متكررة، وما اهتماماتك، وما إذا كنت تواجه أي صعوبات. قد يسألك أيضًا عن طفولتك، وقد يرغب بعض الأطباء في التحدث مع أحد والديك أو أشقائك للحصول على فكرة أفضل عن طفولتك.
ارتفاع في حالات التوحد
كان التوحد يُعد اضطرابًا نادرًا، لكن مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها تُشير إلى أن حوالي طفل واحد من كل 36 طفلًا يُعاني اضطراب طيف التوحد، وقد استمرت حالات اضطراب طيف التوحد في الارتفاع كل عام.
قد يعود هذا الارتفاع إلى امتلاك الأطباء أدوات فحص أفضل ووعي أكبر بالحالة. ويعتقد بعض الخبراء أن الأمر مرتبط أيضًا بعدد من العوامل الوراثية والبيئية المختلفة، ويستمر البحث لفهم أسباب اضطراب طيف التوحد وأسباب ازدياد انتشاره.
المدرسة والعمل والتوحد
أظهرت الدراسات أن الشباب المصابين باضطراب طيف التوحد يميلون أكثر لاختيار تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات «STEM» على غيرها من التخصصات، ثم إنهم أكثر ميلاً لاختيار هذه التخصصات مقارنةً بغيرهم من غير المصابين باضطراب طيف التوحد أو ذوي الإعاقات المختلفة.
يميل الأطفال المصابون باضطراب طيف التوحد -ممن يتمتعون بمستويات ذكاء متوسطة- إلى تحقيق مستويات نجاح أعلى في الرياضيات مقارنةً بالأطفال غير المصابين به والذين ينتمون إلى نفس نطاق الذكاء.
ويعتقد الخبراء أن هذا يعود إلى امتلاك المصابين باضطراب طيف التوحد أنماطًا ومهارات تنظيمية خاصة تجعلهم بارعين في حل المشكلات، لكن الأشخاص المصابين باضطراب طيف التوحد لديهم أيضًا أدنى معدل التحاق بالجامعات.
ثم إن معدلات البطالة بين المصابين باضطراب طيف التوحد مرتفعة للغاية، ففي عام 2021، بلغت نسبة البالغين المصابين بهذه الحالة 85% عاطلين عن العمل.
التوحد عالي الأداء وعقبات التقدم للوظائف
على الرغم من مواهبهم ومهاراتهم المتعددة؛ فإن المصابين باضطراب طيف التوحد عالي الأداء يواجهون عادةً عقبات عند التقدم للوظائف. ويؤثر اضطراب طيف التوحد على مهاراتك الاجتماعية، وقدرتك على التواصل، وكيفية إدارة سلوكياتك وردود أفعالك، ويمكن أن يكون لهذا تأثير كبير على عملية مقابلة العمل.
قد يمتلك الشخص جميع المهارات اللازمة لوظيفة ما، ولكن إذا افتقر إلى مهارات المحادثة في أثناء المقابلة، فقد يُكوِّن صاحب العمل تحيزًا ضده، وعلى الرغم من أن القائمين على المقابلة قد لا يدركون حتى إنهم فعلوا ذلك، فإنه قد يؤثر إلى حد بعيد على قدرة الشخص المصاب باضطراب طيف التوحد على الحصول على وظيفة.
نماذج ملهمة للتوحد عالي الأداء
على الرغم من ذلك، يزدهر عدد من المصابين بهذه الحالة في حياتهم المهنية. ومن أشهر قصص النجاح مع اضطراب طيف التوحد قصة الدكتورة «تمبل غراندين» التي شقت طريقها المهني الفريد في تصميم أنظمة لإدارة الثروة الحيوانية.
في بيئة عمل عادية، ربما لم تكن لتحظى بنفس الفرص، ففي حين قد تتطلب بعض الوظائف مهارات التواصل والمهارات الاجتماعية، فإن وظائف أخرى أكثر تقنية لا تتطلبها. ولو كانت هذه الوظائف أقل اعتمادًا على المقابلات والمحادثات، لكانت لدى المصابين باضطراب طيف التوحد فرصة أفضل لإبراز مهاراتهم.
يوجد عدد لا يحصى من الوظائف -ليس فقط في مجال التكنولوجيا- التي يمكن للأشخاص المصابين بالتوحد عالي الأداء أن يتفوقوا فيها إذا أتيحت لهم الفرصة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.