يُعد مصطلح «التنمية المستدامة» حاضرًا بقوة في نقاشاتنا المعاصرة، لكنه غالبًا ما يكتنفه الغموض عن معناه الحقيقي وآليات تطبيقه. في هذا المقال، نزيل الستار عن هذا المفهوم الحيوي، ونستكشف أبعاده المتعددة وأهدافه الطموحة التي تسعى لتحقيق رفاهية الإنسان والحفاظ على كوكب الأرض للأجيال القادمة، ونسلط الضوء على التحديات والمعوقات التي تعترض طريق تحقيق هذا الحلم العالمي على أرض الواقع.
يتردد مصطلح (التنمية المستدامة) في كثير من الحوارات الاقتصادية والاجتماعية والخطط والمشروعات المرتبطة بالبيئة واستهلاك الموارد الطبيعية، لكن كثيرًا من الناس لا يعي تمامًا ما التنمية المستدامة؟ ولماذا انتشر هذا المصطلح في السنوات الأخيرة؟ وهل تخص التنمية المستدامة منطقة معينة أو زمنًا محددًا؟ وهو ما يحتاج إلى توضيح ما معنى (مفهوم التنمية المستدامة) وأهدافها، وكيفية تطبيقها على الأرض.
ما التنمية المستدامة؟
ببساطة شديدة التنمية المستدامة هو مصطلح له عدة أبعاد اقتصادية واجتماعية، ويرتبط بطريقة الحياة على كوكب الأرض، لذا فإنّ مصطلح التنمية المستدامة مصطلح عالمي وضعت به الأمم المتحدة مجموعة من الخطط التنموية في مجالات البيئة والمجتمع والاقتصاد بغرض تحسين ظروف المعيشة للأفراد في كل المجتمعات، إضافة إلى تطوير أساليب ووسائل الإنتاج لتحقق النمو الاقتصادي المطلوب، مع مراعاة عدم استنزاف الموارد الموجودة على كوكب الأرض على نحو قد يؤدي إلى كوارث في السنوات القادمة، لعدم حرمان الأجيال الجديدة من هذه الموارد.
لذا فإنّ التنمية المستدامة هي مجموعة من الخطط والمعايير والاستراتيجيات التي تحكم التعامل مع الموارد في عمليات الإنتاج والتطوير، وهو ما يتضمن أيضًا رفع شأن الأفراد وزيادة مستوى جودة الحياة، وهو ما يبدو على المستوى النظري رائعًا جدًا، لكن التنمية المستدامة تُعد من الأحلام الصعبة التي تحتاج إلى كثير من التعاون الدولي والانضباط الكبير في وضع الخطط والإستراتيجيات وتنفيذها على أرض الواقع.
لماذا التنمية المستدامة؟
من الواضح أن الموارد الطبيعية الموجودة على كوكب الأرض معظمها غير متجدد، والإنسان الحديث قد استهلك كثيرًا من هذه الموارد، وخاصة مصادر المياه والطاقة، إضافة إلى المواد الأولية التي يتضاعف استهلاكها يومًا بعد يوم بسبب الثورة الصناعية وزيادة عدد سكان العالم على نحو مرعب؛ لذا ظهر مصطلح التنمية المستدامة من أجل الحد من استخدام واستنزاف هذه الموارد، والحفاظ على حق الأجيال القادمة في الاستفادة بها؛ ما يضمن الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي مدة طويلة.
كذلك فإن الأنشطة البشرية والطرائق والوسائل والاستراتيجيات غير المسؤولة كانت سببًا في تغير المناخ وتلوث الهواء وارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية؛ وهو ما أدى بدوره إلى كثير من التغيرات الكبيرة مثل ذوبان الجليد في القطبين وارتفاع منسوب البحار، وهو ما يعد جرس إنذار وتهديدًا كبيرًا لحدوث كوارث طبيعية قد لا يستطيع الإنسان السيطرة عليها والتعامل مع آثارها المدمرة، وهو أيضًا ما كان دافعًا لظهور خطط وإستراتيجيات التنمية المستدامة.
وكان على المنظمات الدولية أن تؤدي دورها على مستويات عدة، منها التوعوي ومنها التوجيهي، وهو ما حدث فعلًا عندما بدأت الأمم المتحدة في دفع المنظمات الإقليمية والوكالات الدولية ودعوة المنظمات غير الحكومية والدول الأعضاء للتصدي للمخاطر الجديدة، إضافة إلى تبني طرائق وإستراتيجيات وخطط جديدة تتعلق بإنقاذ كوكب الأرض والحفاظ على الموارد، وهو ما عرف بعد ذلك بالتنمية المستدامة الذي تضمن أيضًا القضاء على الفقر وحماية الموارد وتغيير أنماط الإنتاج والاستهلاك، إضافة إلى إيقاف تدهور البيئة ومعالجة التلوث بأنواعه المختلفة في البحار والأنهار والهواء.
ما أبعاد التنمية المستدامة؟
على الرغم من أن مصطلح التنمية المستدامة يُعد شاملًا لكل خطط واستراتيجيات العمل والاستهلاك والإنتاج، فإنه توجد أبعاد تقوم عليها خطط التنمية المستدامة الدولية التي تنطلق منها أيضًا الإستراتيجيات والخطط المحلية في كل الدول. وتتمثل هذه الأبعاد في:
البعد البيئي
يتمثل البعد البيئي في التنمية المستدامة في التعامل الأمثل مع الموارد الطبيعية غير المتجددة، والاهتمام بالأصول الطبيعية، والأخذ في الاعتبار عدم قدرة البيئة على استيعاب التلوث والنفايات على نحو كامل، وإيجاد البديل الذي تضمن الحفاظ على قدر من الموارد الطبيعية للأجيال القادمة.
البعد الاقتصادي
يتضمن البعد الاقتصادي في التنمية المستدامة تطوير البنية الاقتصادية في الدول ذات المستوى المعيشي المنخفض، إضافة إلى تخفيض مستوى استهلاك الموارد الطبيعية والطاقة في الدول القوية التي تتمتع باقتصاد قوي، لا سيما فيما يتعلق بالنفط والغاز.
البعد الاجتماعي
تستهدف التنمية المستدامة تحسين الأحوال الاجتماعية على نحو أساسي في الدول الفقيرة، لا سيما فيما يتعلق بالصحة والتعليم ومحاربة الفقر وخلق فرص العمل وتحسين جودة الحياة. وقد يُعد هذا البعد هو الأهم بين أبعاد التنمية المستدامة، لكنه لن يتحقق وحده دون الأبعاد الأخرى.
البعد التكنولوجي
تسعى التنمية المستدامة إلى أن تكون حاضرة في التطور التكنولوجي السريع، فتصبح التكنولوجيا ذات فائدة، ومواكبة لمتطلبات العصر، إضافة إلى إتاحتها للجميع، وكذلك الحرص على أن تكون هذه التكنولوجيا متوافقة مع أهداف التنمية المستدامة، من تقليل التلوث البيئي، والحفاظ على الموارد، وتحقيق السلام والعدالة الاجتماعية.
ما أهداف التنمية المستدامة في السنوات القادمة؟
على الرغم من أن مصطلح التنمية المستدامة يتداول منذ سنوات طويلة، فإنه أصبح محل اهتمام كبير في السنوات الأخيرة؛ وهو ما جعل منظمة الأمم المتحدة تضع 17 هدفًا أعلنتها عام 2015 وأدرجتها خطة تنمية دولية عام 2016، وهي الأهداف التي تحاول المنظمة الدولية تحقيقها بحلول عام 2030 وتترابط تلك الأهداف مع بعضها بعضًا، وتحقق كثيرًا من الغايات الفرعية، وتغطي كثيرًا من الجوانب، ومع أنها ليست ملزمة للحكومات، فإنها تُعد توجهًا دوليًّا يصب في صالح الجميع. وجاء ترتيب الأهداف الـ 17 على النحو التالي:
- القضاء على الفقر.
- القضاء على الجوع.
- تحقيق الصحة والرفاهية.
- التعليم الجيد.
- المساواة بين الجنسين.
- المياه النظيفة.
- الطاقة النظيفة بأسعار معقولة.
- العمل اللائق والنمو الاقتصادي.
- تطور الصناعة والابتكار والبنية التحتية.
- الحد من أوجه عدم المساواة.
- تطوير الاستهلاك والإنتاج.
- تحويل مدن المجتمعات محلية إلى مناطق مستدامة.
- تحسين المناخ.
- الحياة تحت الماء.
- الحياة في البر.
- السلام والعدالة والمؤسسات القوية.
- عقد الشراكة لتحقيق الأهداف.
ما معوقات التنمية المستدامة؟
على الرغم من روعة الأهداف التي تنادي بها التنمية المستدامة، والخريطة الرائعة التي وضعتها الأمم المتحدة، والتوجه الدولي الذي تظهر فيه المؤتمرات والمعاهدات والاجتماعات على مستوى الحكومات والجمعيات الأهلية، فإن توجد معوقات كثيرة أمام خطط التنمية المستدامة التي تنتشر في معظم دول العالم. ومن أبرز هذه المعوقات ما يلي:
الزيادة السكانية
التي تُعد من أهم المعوقات أمام كل خطط الإصلاح والتنمية، ثَمّ أمام التنمية المستدامة، فالزيادة السكانية تلتهم كل المكاسب، وتؤدي إلى زيادة استهلاك الموارد والثروات الطبيعية بما يتعارض مع خطط التنمية البشرية على نحو كبير، لا سيما في المجتمعات الفقيرة التي تنتهج سياسة الإنجاب دون تخطيط أو سيطرة.
انتشار الفقر
يُعد الفقر أيضًا من العقبات الكبيرة التي تواجه خطط التنمية المستدامة؛ فمعظم دول العالم تعاني من الفقر حتى الدول الغنية يوجد بها نسبة من الفقراء؛ وهو ما يحتاج إلى إجراءات قد تتعارض مع مصالح النخبة التي تسيطر على الاقتصاد، وقد يحتاج الأمر إلى تشريعات وقوانين تتطلب كثيرًا من التغيرات السياسية، وهو ما يجعل الأمر أكثر صعوبة للقضاء على الفقر أو الحد منه.
الصراعات والحروب
التي لا تُعد فقط عقبة أمام التنمية المستدامة، وإنما تعد عقبة أمام أي تطور أو تنمية أو استقرار، وتؤثر الصراعات والحروب في باقي المناطق الخالية من النزاعات، فالكوكب أصبح أشبه بقرية صغيرة، ما يحدث في طرفها يؤثر في الطرف الآخر، لذا فإنّ خطط التنمية المستدامة تحتاج إلى القضاء على الصراعات والحروب من أجل توحيد السياسات والاستراتيجيات والخطط التي تستخدم رؤية التنمية المستدامة.
تضارب المصالح
وبذلك نقصد تضارب المصلحة بين الدول الكبرى التي لا تصب سياسات التنمية المستدامة في مصالحها؛ نظرًا لسيطرتها على الكيانات والشركات والمؤسسات الاقتصادية الكبيرة، لذا فإنّ الحد من الاستهلاك وتغيير أنماط الإنتاج قد يؤثر في مصالح هذه الدول، وهو ما يجعل خطط التنمية المستدامة تتعارض مع خطط واستراتيجيات كثير من الكيانات الكبرى.
ارتفاع التكلفة
تحتاج أهداف التنمية المستدامة إلى تكلفة عالية من أجل تحقيقها، وهو ما يضع الأمر في نطاق الخيال. فعلى سبيل المثال تقدر تكلفة تقليل وطأة الفقر في العالم في الـ15 سنة المقبلة نحو ثلاثة تريليونات دولار أمريكي حسب تقديرات منظمة الإيكونوميست، وتكلفة توفير مياه نظيفة وصرف صحي يتناسب مع أهداف التنمية المستدامة يحتاج إلى نحو 200 مليار دولار أمريكي، فمن سيدفع هذه التكلفة في حين يتسابق العالم على تحقيق المكاسب والأرباح؟
وهكذا فإن التنمية المستدامة خطة شاملة تنتهجها المنظمات الدولية والحكومات بغرض الحفاظ على الموارد، وتحقيق كثير من الأهداف التي تصب في صالح الإنسان في كل مكان؛ لذا فإن العمل على أهداف التنمية المستدامة -وإن كان يصعب تحقيقها كاملة- يؤدي في الأقل إلى تحقيق بعضها، وما لا يدرك كله لا يترك جله.
تبقى التنمية المستدامة رؤية طموحة وضرورة حتمية لمستقبل كوكبنا ورفاهية الإنسانية، وعلى الرغم من التحديات الكبيرة؛ فإن السعي الدؤوب نحو تحقيق أهدافها، ولو جزئيًا، يمثل خطوة جوهرية نحو عالم أكثر استدامة وعدالة، دعنا نتشارك في هذا المسعى العالمي ونساهم في بناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
وفي الأخير نرجو أن نكون قدمنا لك كل ما تحتاج معرفته عن مصطلح التنمية المستدامة، ويسعدنا كثيرًا أن تشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.