التنمر والعنصرية للهجات العربية عبر التواصل الاجتماعي والمجتمع

كانت مجرد صورةٍ عابرة، وقف فيها الأميرالاي أحمد عرابي بكل شموخ أمام غرور الخديوي توفيق، بينما يقول له الخديوي توفيق كلماته الحادة: "لماذا جئت يا عرابي؟"

فكان عرابي ابن الشرقية البار يرد عليه بكل كبرياء: (ما لكش دعوة) هذا ما وجدته في (الكوميك) الذي رأيته وأنا أطالع الأخبار على مواقع التواصل الاجتماعي، وتبادرت لذهني عدة تساؤلات عن التنمر على اللهجات، هل يعد الأمر مجرد ضحكاتٍ متراصة نختار منها ما نشاء؟ أم أن هذا النوع من التنمر يعد غوصًا عميقًا في هدم الأصالة؟

اقرأ ايضاً الظاهرة الصوتية في اللهجات

اللهجات العربية والتنمر

إن الدافع الحقيقي للتنمر والاستهزاء باللهجات بين الناس دافعٌ غريبٌ جدًا، للحد الذي يرى فيه المتنمر نفسه في مكانةٍ أعلى من الآخر؛ الأمر الذي يجعل هذه السخرية قادرة على حجز مكان براق في طابور العنصرية؛ لأنه تعدٍ صارخ على حرية الآخر الذي يجد نفسه مضطرًا لتغيير لهجته خوفًا من هذه السهام الطائشة.

كتب الصحفي (تشي لو) في صحيفة BBC مقالًا يتساءل فيه: هل يجب أن تغير لهجتك لكي تنجح؟

يقول في هذا المقال إن اللهجة تساعد الناس الوصوليين على النجاح بطريقة أسرع، وإن هناك بعض الشخصيات الوصولية مثل (مارجريت تاتشر) رئيسة وزراء بريطانيا السابقة على سبيل المثال، غيرت لهجتها لأنها كانت من مقاطعة (لينكولنشاير)؛ لأن ذلك كان يساعدها في الوصول لمبتغاها.

اقرأ ايضاً ظاهرة التنمر.. تعرف على أسبابها وعلاجها

الانتصار عبر اللهجة أيضاً

كنتُ بطبيعة الحال كأي إنسانٍ محاطٍ بالمتنمرين أتخيل منظرها وهي تقول (مش تدرينك الميلك وهو ساخن) بدلًا من أن تقول don’t drink the hot milk، وتقول أيضًا (أنا سارحة الورشة) بدلًا من أن تقول i am going to work، وهكذا..

واستخدمت مارجريت تاتشر اللهجة الرسمية في بريطانيا والتي يتحدث بها المثقفون وأصحاب المناصب لكي تشعر أنها مميزة وتتمتع بفخامة أكبر عن بقية الناس.

 ثم أتى بعدها (توني بلير) و(جورج أوزبورن) الذين غيرا لهجتهما أيضًا، ولكن في اتجاه معاكس، فلقد تكلما في كلامهما الموجه للشعب بعد إضافة ألفاظ ومصطلحات تخص الطبقة العاملة في بريطانيا.

كأن يقولا مثلًا (متبصليش على الديون الخارجية بص للي اتدفع فيا)، فيلقيان الحفاوة والترحيب الحار من الكادحين، وهكذا اعتقدا أنهما اكتسبا شريحة مجتمعية جديدة في صفهم، لكن الغريب أن هذا المجتمع الكادح قابلهم بالسخرية من لهجتهم الجديدة والتنمر عليها باعتبار أنهم تنازلوا عن أصالتهم، (طلع الفلاحين من الجنينة يا توني عشان مفيش فايدة).

يقول (تشي) لو أننا دققنا في الأسباب التي تجعلنا نستعير من لهجتنا وأصلنا سنجد مجموعة أحكام تافهة وليس لها قيمة، يعني ما المانع في أن نعيش ونتعايش دون طبقية وتحديد مستوى معيشي طبقًا للهجة معينة؟

مشكلة اللهجات أنها ليست تيشيرتات أو بناطيل مثلًا، تلبس اللهجة الإسكندرانية عندما تزور كفر أبي دبوس، وتخلعها عندما ترجع، ثم في اليوم الثاني تلبس الكلام القاهري حين تذهب لأبي كبير، وهكذا، فهو ليس عرض أزياء.

حين تتحدث لمدة 30 ثانية فقط، يستطيع الآخر أن يحدد هويتك، ومكانك، وماذا تلبس وتأكل وتشرب، ويمكنه بعدها بناء استراتيجية في التعامل معك، تتحدد معها درجة التنمر، أو وجود التنمر بالأساس من عدمه، وهذا هو الأمر الشائع في بلاد عديدة فمثلًا سكان نيويورك يتنمر عليهم المجتمع الأمريكي ويراهم وقحين، أما البريطانيون الذين يتكلمون باللهجة الرسمية متعلمين، وتوجد لهجة في مقاطعة يوركشاير من يتحدث بها يعد أهلًا للثقة، أما الذين يتحدثون بلهجة مقاطعة برمنجهام فيقال عنهم إنهم مجرمون.

اقرأ ايضاً التنمر مرض العصر

حكاية جون باف وتأثير اللهجات على الحياة

وتوجد حكاية طريفة عن رجلٍ اسمه (جون باف) وهو أستاذ في علم الاجتماع اللغوي في جامعة ستانفورد، قام هذا الرجل بعمل دراسة غريبة لكي يرى تأثير اللهجات على الناس، فماذا فعل؟

 رأى جون باف إعلانًا عن شقق سكنية في مجلة فرفع سماعة الهاتف وقام بعمل مكالمات متكررة، وتكلم في كل مكالمة بلهجة مختلفة، وسجل عدد الشقق المتوفرة وغير المتوفرة حسب اللهجة التي تكلم بها، استخدم لهجة الأمريكيين من أصل إفريقي، ولهجة سكان شيكاغو، واللهجة الأمريكية السائدة.

وحينما استخدم جون باف اللهجات غير السائدة، فوجئ بأن كثيرًا من أصحاب الشقق أخبروه أن هذه الشقق غير متوفرة. وأن هذه الشقق ذاتها متوفرة فقط حين تحدث باللهجة الأمريكية السائدة.

مشكلة التنمر على اللهجات أنه لا يجعل الشخص الذي يتحدث بلهجة مختلفة يغير من لهجته فقط، ولكنه أيضًا يجعله منبوذًا يسأل نفسه عن الخطأ الذي اقترفه.

الطلاب السوريون في مصر وتنمر اللهجة

وفي مسألة اللهجات العربية كان هناك حوارٌ للدكتورة نرمين محرم، مسؤولة الدعم النفسي الاجتماعي بهيئة إنقاذ الطفولة، وهي هيئة راعية لأكثر من 90 ألف لاجئ، تتكلم عن الصعوبات التي قابلت الطلاب الذين هربوا من الحروب والاضطهادات في بلادهم وأتوا لمصر.

الدكتورة نيرمين تقول إن أهم المشاكل النفسية التي يعاني منها أبناء اللاجئين بعد دخولهم المدارس هي الشعور بضغوط نفسية مستمرة، وأنهم غير قادرين على التعامل مع الوضع الجديد أو تكوين صداقات جديدة، طب إيه السبب؟! السبب هو اختلاف اللغة واللهجات، يجعلهم ذلك عرضة للتنمر اللفظي والجسدي، خاصة في المدارس الموجودة في المناطق العشوائية.

تقول الدكتورة نيرمين إن أصعب حالة نفسية مرت عليها كانت لطفل إفريقي في الابتدائية تعرض للتنمر من زملائه المصريين بسبب أنه متفوق عليهم دراسيًا، فاعتدوا عليه جسديًا وضربوه ضربًا شديدًا أدى لإصابته في بعض المناطق من جسمه، وأثر ذلك على تفوقه الدراسي؛ لأنه أصبح مشغولًا بالخوف من الآخرين، حتى الأطباء النفسيين لن يستطيعوا حل تلك الأزمة النفسية.

في النهاية يصبح للمنظور الأخلاقي اليد العليا، وعليه فلا مانع إطلاقًا من أن يقول عرابي للخديوي توفيق: "مش إلك دعوة" ولكنها ستصبح كارثة أن ضحك الجنود وأوهموا عرابي أنه أخطأ ويجب أن يغير لهجته.

حساب مصري معني بالشأن الثقافي والكتابة الإبداعية بكل أشكالها والجوائز الأدبية في مختلف فروع الإبداع الكتابي..

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

مقالات ذات صلة
نوفمبر 26, 2023, 12:23 م - ايه احمد عبدالله
نوفمبر 21, 2023, 5:32 م - رضوان عبدالله سعد الصغير
نوفمبر 2, 2023, 8:53 ص - رانيا رياض مشوح
أكتوبر 28, 2023, 2:32 م - سلوى محمود
أكتوبر 28, 2023, 7:50 ص - عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن
أكتوبر 21, 2023, 11:34 ص - أساور علي محمد
أكتوبر 17, 2023, 11:05 ص - عائشة صلاح الدين
أكتوبر 15, 2023, 7:06 م - إياد عبدالله علي احمد
أكتوبر 10, 2023, 7:58 م - إياد عبدالله علي احمد
أكتوبر 10, 2023, 5:52 م - اسامه غندور جريس منصور
أكتوبر 9, 2023, 1:28 م - عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن
أكتوبر 2, 2023, 12:41 م - عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن
أكتوبر 2, 2023, 10:40 ص - عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن
أكتوبر 1, 2023, 11:08 ص - أساور علي محمد
سبتمبر 27, 2023, 6:46 م - مها عبدالله البقمي
سبتمبر 27, 2023, 1:09 م - محمد إسماعيل الحلواني
سبتمبر 27, 2023, 9:45 ص - محمد عبد الونيس السيد ناصف
سبتمبر 27, 2023, 7:47 ص - اسامه غندور جريس منصور
سبتمبر 23, 2023, 11:08 ص - مدبولي ماهر مدبولي
سبتمبر 18, 2023, 5:46 م - ياسمين هشام محمد
أغسطس 29, 2023, 4:20 م - بومالة مليسا
أغسطس 29, 2023, 3:19 م - لؤي نور الدين الرباط
أغسطس 22, 2023, 3:41 م - صفاء السماء
أغسطس 20, 2023, 6:30 م - اسامه غندور جريس منصور
أغسطس 20, 2023, 4:40 م - بومالة مليسا
أغسطس 19, 2023, 12:32 م - اسامه غندور جريس منصور
أغسطس 17, 2023, 12:04 م - أحمد توفيق عبدالله الوايلي
أغسطس 16, 2023, 5:38 م - اسامه غندور جريس منصور
أغسطس 16, 2023, 12:36 م - رضوان عبدالله سعد الصغير
أغسطس 16, 2023, 12:09 م - رضوان عبدالله سعد الصغير
أغسطس 15, 2023, 8:28 م - محمد أمين العجيلي
نبذة عن الكاتب

حساب مصري معني بالشأن الثقافي والكتابة الإبداعية بكل أشكالها والجوائز الأدبية في مختلف فروع الإبداع الكتابي..