التنمر جريمة العصر والوعي الجديد

التنمر هذه الظاهرة التي كانت موجودة في التاريخ على نحو غير واضح، أصبحت الآن جريمة حديثة، لا تقتصر على ضرب أو إذلال الأجساد، بل تجاوزت ذلك لتصبح سلوكًا مدمرًا للروح والعقل، يكاد أن يطأ كل مكان، من المدارس إلى منصات التواصل الاجتماعي. هذا الفعل الشنيع الذي يشوِّه صورة البشر ويجعلهم يشعرون بعجزهم، يتطلب من المجتمع الوقوف ضدَّه، خاصة مع تزايد ضحاياه من الشباب والمراهقين الذين يعانون من تأثيراته النفسية الشديدة.

الجذور التاريخية للتنمر في الأدب العربي

التنمر ليس ظاهرة حديثة، بل له جذوره في تاريخ الأدب العربي، إذ قد يبدو للبعض أن السخرية من المظهر أو التنمر على الشخصيات بسبب شكلها أو حالتها الاجتماعية أمر متأصل في بعض الثقافات. في كتب التراث العربي، يمكننا أن نرى كثيرًا من الأمثلة التي تبرز التنمر على نحو صريح، وأحيانًا على نحو فكاهي.

أحد أبرز هذه الأمثلة يأتي في قصة الجاحظ، الأديب المشهور الذي كان ينعته كثير من شعراء عصره بقبح المظهر، فقد كان الجاحظ من «المبتلين» بقبح الهيئة، بعيدًا عن الوسامة بُعد الشمس عن المشترى، حتى إن أحد الشعراء قال فيه: «لو يُمسَخُ الخنزيرُ مسخًا ثانيًا ما كان إلا دونَ قبحِ الجاحظِ!»، وهي شهادة على حجم التنمر الذي تعرض له.

الجذور التاريخية للتنمر

لكن السخرية لم تتوقف عند هذا الحد، بل كانت أشد وقعًا عندما روى الجاحظ في كتاب «المستطرف» للأبشيهي أنه ذات يوم، كان مع تلاميذه حينما جاءت امرأة إلى صائغ وقالت: «مثل هذا!» في إشارة إلى الجاحظ. وعندما استفسر عن مغزى تلك الكلمات، تبين أن المرأة طلبت منه أن يصنع لها «صورة جني»، فاختارها الصائغ لتشبهه! كانت هذه الواقعة بمثابة أقسى أنواع التنمر، ولكن في إطار أدبي فكاهي لم يكن مألوفًا في ذلك الوقت.

التنمر في العصر الحديث.. من الأدب إلى الواقع الرقمي

مع تطور الزمان، انتقل التنمر من مجال الأدب إلى الحياة الواقعية، ليأخذ نمطًا جديدًا في العصر الرقمي، أصبح التنمر الإلكتروني -أي عبر الإنترنت- أكثر انتشارًا وفتكًا، ففي زمن وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح التنمر أسهل وأكثر شيوعًا، فيمكن لأي شخص أن يختبئ وراء شاشة هاتفه ليمارس السخرية والتهكم على الآخر دون أن يكون هناك رادع.

أحد أبرز ضحايا هذا التنمر هو البلوجر الشاب شريف نصار الذي تُوفي الجمعة الماضية (25/4/2025) بعد تعرضه لانتقادات لاذعة عبر منصات التواصل الاجتماعي.

لم يكن شريف فقط ضحية للأذى اللفظي، بل إن تأثير التنمر على حياته كان عميقًا، حتى وصل إلى مرحلة الإحباط التام التي كانت أحد أسباب وفاته المبكرة. وتُعد هذه الحادثة تنبيهًا للجميع على ضرورة الوقوف ضد هذه الظاهرة التي تزداد خطورتها يومًا بعد يوم.

شريف نصار ضحية التنمر

التنمر في الإسلام.. الرؤية الدينية

أما من الناحية الدينية، فقد حثَّت الشريعة الإسلامية على احترام الإنسان بغض النظر عن مظهره أو أصله، ففي القرآن الكريم والسنة النبوية، نجد كثيرًا من النصوص التي تدعو إلى الابتعاد عن السخرية والتعالي على الآخرين. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} (الحجرات: 11). هذه الآية الكريمة تؤكد أن التنمر أو السخرية من الآخرين هو أمر غير مقبول، ويجب على المسلم أن يكون لطيفًا ومتواضعًا.

كذلك، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «من لا يرحم لا يُرحم». وهي دعوة كبيرة إلى التعامل مع الناس بالرحمة والاحترام، دون النظر إلى مظهرهم أو حالهم الاجتماعي.

هل يمكن أن يصبح التنمر جريمة قضائية؟

بالنظر إلى تأثير التنمر على الأفراد، سواء في المدارس أو على الإنترنت، تزداد المطالبات بتصنيفه جريمة يعاقب عليها القانون. وفي العديد من الدول، أصبحت هناك قوانين تجرم التنمر الإلكتروني، سواء كان في التعليقات المسيئة على الإنترنت أو التهديدات التي تؤثر بشكل كبير على ضحاياها.

هل التنمر جريمة

وفي بعض البلدان مثل الولايات المتحدة وكندا، يُعاقب التنمر بالسجن أو الغرامات المالية، أما في الدول العربية، فقد بدأ الوعي بضرورة وضع قوانين تشدد العقوبات ضد المتنمرين، خاصة فيما يتعلق بالتنمر عبر منصات التواصل الاجتماعي.

نحو مجتمع خالٍ من التنمر

التنمر ليس مجرد سلوك سيئ، بل هو جريمة تدميرها لا يقتصر فقط على المظهر أو الكرامة، بل يتعدى ذلك إلى النفسية والقدرة على العيش بسلام. من أجل أن نعيش في مجتمع خالٍ من التنمر، يجب علينا أن نلتزم بقيم الاحترام والتسامح، وأن نعمل على نشر الوعي وتثقيف الأجيال الجديدة حول أضرار التنمر وضرورة الرحمة والتعاون مع بعضنا بعضًا.

ومع تطور التشريعات في العالم العربي والغربي، يمكن أن يصبح التنمر جريمة يُعاقب عليها القانون، لا سيما مع تزايد الوعي بخطورته. وتبقى المهمة الكبرى في يد كل فرد منا لنكون داعمًا لضحايا التنمر، ونسهم في تغيير هذه الظاهرة المؤلمة.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة