التناص.. أنواعه وأنماطه في الأدب وكيف تتداخل النصوص وتتحاور؟

يُعد التناص من أهم المفاهيم في النقد الأدبي الحديث بل يكاد أن يكون حجر الزاوية، فهو يكشف لنا عن أن كل نص جديد ليس كيانًا معزولًا، بل هو نسيج معقد من العلاقات والروابط التي تصله بنصوص أخرى سابقة أو معاصرة. وإن هذه الشبكة النصية تُضفي على العمل الأدبي عمقًا وثراءً، وتجعله نتيجة لحوار ثقافي مستمر أو بمعنى آخر علاقة خاصة تربطه بنصوص أخرى سابقة أو معاصرة.

ولا يقتصر التناص على الاقتباس المباشر فحسب، بل يتعدد ليشمل أنواعًا ودرجات متفاوتة من الوضوح والعمق، تُبرز كيفية تفاعل النصوص مع بعضها بعضًا، سواء أكان ذلك بوعي من الكاتب أم لا.

إن فهم التناص يساعدنا على قراءة النصوص بوعي أعمق، واكتشاف الطبقات المخفية من المعنى، وفهم كيف يبني الكاتب عمله ليس من فراغ، بل من إرث ثقافي وتراثي غني.

في هذا المقال، سنغوص في تفاصيل أنماط التناص المتنوعة، من التطابق إلى الاختلاف، ونستكشف تقسيماته الرئيسة إلى تناص خارجي وداخلي، لتوضيح كيف أن كل عمل إبداعي هو نقطة التقاء لأصوات أدبية متعددة.

حين تقرأ نصًّا أدبيًّا وتشعر بوجود صوت آخر يهمس بين السطور، أو ظل يتسلل في خلفيات المعاني، فأنت دخلت عالم التناص، ذلك الحضور الخفي للنصوص في نصوص أخرى، فالأدب لا يكتب في فراغ، بل هو كائن حي يتغذى على ذاكرة اللغة والتراث والأسطورة والفكر، ليعيد تكوين نفسه في كل ولادة جديدة.

لا يولد أي نص أدبي من فراغ؛ فكل كتابة هي في جوهرها حوار مع كتابات أخرى سبقتها أو عاصرتها. هذا التشابك الخفي والظاهر بين النصوص هو ما يُعرف نقديًا بمفهوم التناص، وهو مصطلح صاغته المنظرة الأدبية جوليا كريستيفا متأثرة بأفكار المفكر الروسي ميخائيل باختين في الحوارية.

إن فهم التناص يفتح أعيننا على شبكة معقدة من العلاقات التي تجعل كل نص جديد فسيفساء فريدة من أصداء الماضي وحوارات الحاضر. ولنتعلم أكثر سنسرد في السطور التالية صور التناص المتعددة، وأنواعه المختلفة، ليقدم للقارئ مفاتيح قراءة أعمق وأكثر ثراءً للأدب.

صور التناص 

تتعدد أنواع التناص وهو ما يجعل كل نص جديد نتيجة أو أثرًا لعلاقة خاصة تربطه بنصوص أخرى سابقة أو معاصرة، وفق درجات متفاوتة من الوضوح والعمق، وفي ما يلي تلك الصور بالتفصيل.

تتعدد أنواع التناص وهو ما يجعل كل نص جديد نتيجة أو أثرًا لعلاقة خاصة تربطه بنصوص أخرى سابقة أو معاصرة

1. التطابق (أو المحاكاة)

وفي هذا النمط يمكننا القول إن النص الجديد يمشي على خطى نص سابق له بدقة ووضوح، وكأن كاتب النص الحديث أراد أن يكرر تجربة سابقة أعجبته، لكنه لم يضف عليها كثيرًا من التغيير، فنلاحظ تشابهًا شديدًا بين النصين في نوع الكتابة وأسلوب العرض ووظيفة النص نفسه، وقد يكون الهدف من هذا التطابق تكريم النص القديم أو محاولة إعادة صياغته لجمهور جديد، ولكن في النهاية يبدو وكأننا نقرأ نصًا قديمًا بثوب جديد، دون تغييرات جوهرية في البنية أو الفكرة.

2. التفاعل

في هذا النمط نجد أن النص الجديد لا يكتفي بالمحاكاة، بل يفتح حوارًا حيويًّا مع النصوص السابقة، وفي هذا النوع نجد الكاتب يقتبس أو يستدعي نصًا آخر، لكنه يدمجه في نصه بطريقة ذكية، بحيث يعيد توظيفه لخدمة رؤيته الخاصة وأهدافه الإبداعية، ولا يكون التفاعل سطحيًّا، بل قائمًا على فهم عميق للنص الأصلي ثم إعادة صياغته بما يتناسب مع السياق الجديد، ومن الأمثلة على ذلك ما نراه من تقاطع بين مسرحية (الحياة حلم) للكاتب الإسباني كالديرون، وقصة (النائم والمستيقظ) في (ألف ليلة وليلة)، فقد وجدنا تشابهًا بين الفكرة الأساسية عند كل قصة، لكن النص يقدمها بأسلوب وفلسفة مختلفين.

3. التداخل

هنا لا نتحدث عن تشابه مباشر ولا عن حوار واعٍ بين النصوص، بل عن حالة معقّدة من التداخل، فيصعب أحيانًا الفصل بين حدود النصين، ويحدث هذا عندما تتسرب عناصر من نص إلى نص آخر بطريقة تخلق مزيجًا لغويًّا أو فنيًّا يصعب علينا تفكيكه بسهولة.

وهذا النمط من التناص قد يظهر باستخدام اللغة أو توظيف شخصيات وأحداث مألوفة من نصوص أخرى، ولكن المهم أن يحدث التداخل بذكاء، وإلا فإنه يتحول إلى تكرار أو فوضى نصية، والنصوص العربية القديمة بما تحمله من عمق ثقافي وتراثي، كانت مساحة واسعة لهذا النوع من التداخل، وكذلك بعض الأعمال المعاصرة التي تعيد استدعاء الماضي ولكن برؤية حديثة.

4. الحوار

يتميز التناص الحواري بوجود نصين يبدوان كأنهما يجلسان على الطاولة، وكل منهما يعرض فكرته ويحترم الآخر دون أن يذوب أحدهما في الآخر، وفي هذا الشكل نلاحظ تقاربًا في الأسلوب أو الأفكار أو البنية، ولكن مع احتفاظ كل نص بكيانه المستقل، وقد يكون النصان مختلفين في الغرض أو الرسالة، لكن بينهما نوع من التوازي أو الانسجام الذي يجعل القارئ يرى العلاقة بينهما دون أن يشعر بأن أحدهما نسخة من الآخر، وهذا النمط يترك مساحة كبيرة للقارئ للتأمل وربما المقارنة والتقييم.

5. الاختلاف

وهنا نتحدث عن التناص القائم على الاختلاف، وهو من أكثر الأنواع إثارة، ففي هذا النوع لا يسعى النص الجديد إلى تكرار ما سبق، بل إلى نقضه أو مراجعته أو حتى السخرية منه أحيانًا، فالنص هنا يكون ناقدًا أو معارضًا لسابقيه، وقد يكون قائمًا على تجاوز مفاهيم قديمة يرى الكاتب أنها لم تعد صالحة لزمنه.

ولدينا مثال على ذلك من نص (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري الذي يقال إن (دانتي) تأثر به في (الكوميديا الإلهية)، لكن نجد من يرى أيضًا أن النصين يقدمان رؤيتين متعارضتين تمامًا عن الآخرة، وهو ما يطرح سؤالًا مثيرًا عن العلاقة بين التفاعل والاختلاف.

تقسيمات التناص

لا يقتصر التناص على نوعه الظاهري فقط، بل يمتد إلى مستويات مختلفة من العلاقة بين النصوص، وينقسم التناص إلى خارجي وداخلي.

1. التناص الخارجي

في هذا النوع يكون النص الأدبي مرتبطًا بنص آخر خارجه، سواء أكان هذا النص سابقًا له أم متزامنًا معه، أو كان من بيئة ثقافية متقاربة أو مختلفة، فالنص الجديد هنا لا يكتفي بالانغلاق على ذاته، بل يفتح أبوابه لنصوص أخرى تسكن خارجه، وقد تكون هذه العلاقة مباشرة وواضحة، يلمحها القارئ بسهولة، وقد تكون مموهة لا تظهر إلا للقارئ المدقق.

النص الأدبي في هذا النوع يشبه من يكتب وهو ينظر إلى ما كُتب قبله أو إلى جانبه، والجميل أن هذا النوع من التناص لا يقتصر على مجال ثقافي واحد، بل يمكن أن يأخذ من نصوص دينية أو تاريخية أو شعرية أو حتى فكرية عربية كانت أم غربية، ومن صور التناص الخارجي: 

الاقتباس

وهذا هو الشكل الأكثر وضوحًا وبساطة في التناص الخارجي، فيقتطع النص الجديد هنا مباشرة من نص مقدّس أو نص قديم معروف، كأن يورد الكاتب آية قرآنية مثلًا أو جزءًا منها داخل نصه الأدبي، واللافت للنظر هنا أن هذا الاقتباس لا يكون فقط لغرض التزيين، بل أحيانًا يحمل النص معاني عميقة تتعزز باستدعاء النص الأصلي، فيكون بذلك النص الجديد متكئًا على مرجعية دينية أو ثقافية تمنحه قوة إضافية في التأثير.

التضمين

وفي هذا النوع لا يدرج الكاتب النص المقتبس كاملًا أو مباشرًا، بل يعيد صياغته، أو يقتطف منه بيت شعر أو نصف بيت، ويدخله في بنية نصه بطريقة فنية، وهنا القارئ المطلع وحده فقط من يستطيع أن يكتشف هذا التضمين ويقدر جماله، وهو هنا ليس استعارة لفظية فحسب، بل نوع من الإبداع الذي يجعل من النص الجديد نتيجة للنص القديم، دون أن يفقد الكاتب طريقته الخاصة.

الأخذ الظاهر

يتعلق هذا المصطلح بأخذ فكرة أو مضمون من نص سابق، دون إجراء تعديلات واضحة، فقد يأخذ الكاتب معنى عامًا أو حتى تعبيرًا لغويًّا ويدمجه في نصه دون أن يعلن ذلك صراحة، وهذا النوع من التناص تكون محاكمته أدبيًا بناء على مدى وضوح الاقتباس، ومدى أمانة الكاتب في استخدامه.

السرقة الأدبية

وهنا يتحول التناص من حالة تفاعلية إلى عملية خفية تُقدم بغير نسب واضح للنص الأصلي، فإننا نكون أمام ما يعرف بالسرقة الأدبية، وهذا المفهوم لا يعني فقط النسخ، بل يتضمن استخدام نصوص معاد تشكيلها لتبدو أصلية لكنها في الحقيقة مستعارة، والفرق بين السرقة الأدبية والتناص المشروع هو الوضوح ونسبة الأفكار إلى أصحابها، ويعد هذا الموضوع من أكثر القضايا إثارة للجدل في ميدان النقد الأدبي.

الاستشهاد

والاستشهاد نوع صريح من التناص، ويستخدم غالبًا في النصوص الفكرية أو التحليلية، فيستعين الكاتب بمقاطع محددة من نصوص أخرى لتدعيم فكرته، وحينئذ يعلن الكاتب عن المصدر مباشرة، كما يظهر احترامه للنص الأصلي ولقيمته المرجعية، وهو يعزز موثوقية النص الجديد ويجعل منه حوارًا مفتوحًا مع ما كُتب من قبل.

التناص الخفي أو المستتر

في هذا النوع يدخل النص الجديد في علاقة أكثر تعقيدًا مع نصوص أخرى، لكنه لا يعلن عنها مباشرة، فقد يشعر القارئ بوجود إحالة إلى نص قديم، أو بوجود ما يشبه التذكير بمشهد أو عبارة مألوفة، لكن الكاتب لا يقول ذلك صراحة، وهذا النوع من التناص يتطلب قارئًا يقظًا، ويمكن أن يندرج تحت التناص الخفي ما يلي: 

 التلميح

هو نوع من أنواع التناص الخفي، إذ يلمح الكاتب إلى نص أو قصة أو بيت شعر دون ذكره مباشرة، والتلميح يعتمد كثيرًا على ثقافة القارئ، فإذا كان على دراية بالأدب القديم أو بالأعمال المعروفة، سيلتقط هذا التلميح وسيرى العلاقة التي أراد الكاتب بناءها، أما إذا لم يكن كذلك فإن المعنى قد يمر عليه دون أن يلاحظه.

التناص المذاب

في هذا الشكل لا يكون النص مقتبسًا حرفيًا، لكن نلاحظ انصهارًا لمجموعة من النصوص القديمة في داخل البنية العامة للنص الجديد، وكأن النص يحمل في داخله أصواتًا خافتة قادمة من الماضي، ولكنها غير واضحة المعالم، وحينما يقرأ القارئ هذا النص قد تتداعى إلى ذهنه عبارات أو صور من نصوص قديمة كان قد قرأها من قبل، فيشعر بأن النص غني بتلك الذكريات الأدبية، دون أن تكون حاضرة مباشرة.

التناص شبه المستتر

هذا النوع يقع بين التلميح الصريح والغموض الكامل، فالنص المقتبس أو المشار إليه لا يظهر مباشرة، لكنه أيضًا ليس غائبًا تمامًا، فتوجد إشارات دقيقة وأبنية لغوية خفيفة قد تفهم على أنها تذكير بنص آخر، لكنها تتطلب قارئًا ذا وعي عميق وقدرة على التأويل، والكاتب هنا يتعامل مع التناص وكأنه يرسم لوحة بخيوط خفية، لا يراها إلا من يمعن النظر.

لا يقتصر التناص على نوعه الظاهري فقط بل يمتد إلى مستويات مختلفة من العلاقة بين النصوص وينقسم إلى خارجي وداخلي

2. التناص الداخلي

نصل الآن إلى القسم الثاني من التناص، وهو التناص الذي لا يحدث مع نصوص خارجية، بل مع نصوص أخرى كتبها المؤلف نفسه، وهذا النوع يشير إلى وجود علاقة بين نص قديم للكاتب ونص جديد له، أو بين أجزاء متعددة من نص واحد، وهنا يكون الكاتب في حوار مع نفسه، يعيد صياغة أفكار كتبها سابقًا، أو يستدعيها بطريقة جديد، أو يخلق روابط داخل نصه تعزز المعنى، ويشمل:

التناص الداخلي الذاتي

في هذا النوع يعيد الكاتب توظيف أفكار أو عبارات أو مقاطع من نصوص كتبها في الماضي، وكأنه يفتح دفاتره القديمة ويستخرج منها ما يمكن أن يعيد استخدامه بأسلوب جديد، والقارئ المطلع على أعمال الكاتب السابقة يستطيع أن يلاحظ هذا النوع من التكرار البناء، والذي لا يكون مجرد تكرار، بل تطور لما كتبه سابقًا.

التناص الداخلي الحواري

وهذا النوع يحدث داخل النص الواحد، حين توجد علاقة بين أجزائه المختلفة، فقد يربط الكاتب بداية النص بنهايته، أو يكرر رمزًا معينًا ليعمّقه في ذهن القارئ، أو يبني شبكة داخلية من الإشارات والمفاهيم التي تجعل النص يبدو وكأنه يتحاور مع نفسه، وهذا النوع من التناص يعكس وعي الكاتب ببنية نصه، وقدرته على جعل كل جزء فيه يخدم الكل.

 هكذا يبدو التناص، يشبه تمامًا رقصة متقنة بين الحاضر والماضي، فهو يدور بين صوت الكاتب وأصوات سابقة له، بعضها صريح يعلن عن حضوره، وبعضها خافت يتخفى في طيات النص، لا يقصد أي كاتب بخاصية التناص إحداث تكرار عميق، بل هو فن في توظيف الذاكرة، وحوار عميق مع الآخر، سواء أكان الآخر نصًا قديمًا أم فكرة مألوفة، وفي النهاية يبقى التناص شهادة على أن لا نص يولد من العدم، بل من وهج قراءات سبقت، وتجارب تقاطعت. 

إن مفهوم التناص يغير طريقتنا في قراءة الأدب؛ فهو يدعونا إلى النظر إلى كل نص ليس كونه كيانًا معزولًا، بل عقدة في شبكة واسعة من العلاقات الثقافية والأدبية. القراءة، من هذا المنظور، تصبح رحلة استكشافية ممتعة، يبحث فيها القارئ اليقظ عن الأصداء الخفية، والحوارات الصامتة، والروابط العميقة التي تجعل الأدب نسيجًا إنسانيًا غنيًا ومتجددًا على الدوام.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.