بين البكاء والقرار.. فهم التقلب النفسي والصراع الداخلي

أحيانًا يمر الإنسان بأوقات من الضيق أو الحزن، يُولد لديه صراع داخلي يجعله دائمًا في لحظات ضعف أو اضطراب في حالته النفسية، ويُولد لديه تناقضًا داخليًا يسعى للتوفيق بينه. وبما أن المعروف أن الحياة لا تخلو من التقلبات، وبطبيعة الإنسان أنه كائن معقّد، يتأرجح بين الانهيار والاتزان، بين العاطفة والعقل، ليجد حلًا للوصول إلى الاستقرار النفسي، إذ يضطر أن يختار بين الاستمرار في الضعف أو الثبات والتأقلم، أي بين البكاء أو اتخاذ القرار.

فما السرّ في هذه الحالة النفسية المتذبذبة؟ وهل يمكن أن تدل على عدم نضوجه الكافي إن استمر في حالة الضعف؟ أم أن هذا التقلّب جزء أصيل من تكوينه، ليجعله يتجاوز أزماته؟

نحاول في هذا المقال أن نحلّل هذا التناقض الظاهري أو الصراع الداخلي لديه، بالدمج بين التحليل النفسي، الفلسفة الواقعية، والرؤية الإسلامية.

أولًا: منظور التفسير النفسي للتذبذب الشعوري

إن الإنسان يحمل في لاوعيه مشاعر متناقضة تنشط حسب المؤثرات اللحظية، وهذا ما يُخبرنا عنه علم النفس التحليلي. فعندما يُعبّر الإنسان بالبكاء مثلًا، فهو تعبير تلقائي عن ضغط عاطفي لا يستطيع تحمّله، أما القرار، فهو يلجأ إليه كمحاولة للوصول إلى الاستقرار النفسي أو استعادة السيطرة على ذاته.

أهمية القرار

والمشكلة لا تكمن في أحدهما، بل في الفجوة الزمنية الصغيرة بين الاثنين. ما الذي يجعل الإنسان يستمر في الضعف، وما يوهمه أنه يعيش اضطرابًا، في حين أن تلك الحالة مرحلة من مراحل النفس تُعرف بـ«الحالة الانتقالية»، إذ تتصارع فيه الرغبة في البقاء داخل الألم مع الحاجة الملحة للخروج منه.

نضرب مثالًا على ذلك: تجربة الانفصال العاطفي بعد مدة طويلة من القرب والتعلّق. أحيانًا يمر في البداية بالتعبير عن ألمه بالبكاء الشديد والشعور بالخذلان ليلًا، ولكنه يُضطر في لحظة النهوض في اليوم التالي ليتخذ قرارًا حاسمًا بقطع الصلة تمامًا. هذا لا يعني التناقض، بل صراع داخلي جعله يختار ألّا يبقى في حالة الضعف، بل يُعيد تنظيم ذاته بين الألم والاستمرار، أي ما نقصده بالبكاء، ثم اتخاذ القرار.

ثانيًا: منظور الفلسفة الواقعية وتفسير التناقض

إن الشعور بالضعف واتخاذ القرار من منظور الفلسفة الواقعية نابع من كونها ترى أن الإنسان يتصرف حسب ما تمليه عليه معطياته اللحظية والبيئية. أي إن الواقع هو ما يؤثر في حالته النفسية: إن كانت قوية، تستطيع التخطي؛ وإن كانت ضعيفة، تستمر في حالة الضعف. ولكن أحيانًا يكون مشهد البكاء ليس ضعفًا مطلقًا، بل رد فعل حقيقي لحظة نفاد القدرة. أما اتخاذ القرار، فهو لحظة وعي تستند إلى معطيات جديدة أو زاوية نظر أخرى للحياة.

البكاء ليس ضعف

والواقعي لا يُحاكم الشخص على تذبذبه، بل يرى فيه صورة من صور الإنسان المتحوّل باستمرار، لا الثابت كما تُصوّره الفلسفات المثالية.

ومهما يكن نوع الفقد أو السبب المؤثر في حالته النفسية، فإنه يبدأ بالانهيار نفسيًا لساعات، ثم ينهض ويبدأ من جديد في البحث عن فرص جديدة. هذا لا يدل على ضعف إرادته، بل على كونه متفاعلًا مع الواقع بتقلّباته، ومحاولة لإيجاد نفسه داخل الاضطراب، ليصل إلى مرحلة تُريح النفس وتُرضيها عن ذاتها بالاندماج، والتقدّم في الحياة.

ثالثًا: تحليل إسلامي للنفس المتذبذبة

إن النظرة الإسلامية للنفس لا تُقصي التقلّب، بل تعترف به ضمن مراتب النفس، إذ من مراتب النفس «الأمّارة بالسوء»، يقول الله تعالى: {وما أبرّئ نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي} (يوسف: 53). وتندرج أيضًا «النفس اللوّامة» التي تندم وتُعيد النظر في أفعالها، و«النفس المطمئنة»، وهي التي بلغت درجة من السكينة والثبات والرضا.

وفي ضوء ذلك، فإن البكاء والقرار كلاهما من تجليات النفس اللوّامة التي تتأرجح بين الرغبات والتزامات الضمير. ثم إن الإسلام لا يُجرِّم الحزن، ولا حرج أن يمر الإنسان بلحظات من الضعف، بل يعترف به حالة إنسانية مشروعة، بدليل قوله تعالى عن يعقوب: {وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم} (يوسف: 84). وهذا يُعبّر عن معرفة الله عز وجل الكاملة بعباده، بقوله جل وعلا: {وخُلق الإنسان ضعيفًا}.

لحظات الضعف

ولنعلم أن الحياة دار شقاء وابتلاء، بقوله جل وعلا: {لقد خلقنا الإنسان في كبد}. لذلك يجب على الإنسان أن يصبر عليها لِيُوفّى الأجر والحساب، بقوله تعالى: {وبشر الصابرين}، وقوله تعالى: {إنما يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}.

ولهذا يجب على الإنسان أن يستسلم لإرادة الله، وأن يرضى دائمًا، ليتذكر دائمًا أنه من الله وإلى الله، بقوله تعالى: {إنّا لله وإنّا إليه راجعون}.

رابعًا: آراء فلسفية في تفسير الصراع الداخلي

عند النظر في الفكر الفلسفي والنفسي، نجد أن هذا الصراع الداخلي الذي يُولّد التناقض أحيانًا لم يكن غريبًا على الفلاسفة والمفكرين الكبار.

ولقد اخترنا في مقالنا رأي «سيغموند فرويد» و«أرسطو» كونهما من علماء النفس البارزين الذين فسّروا النفس تفسيرًا بارعًا.

«سيغموند فرويد»، رائد التحليل النفسي، رأى -معبرًا عن النفس- أنها مكوّنة من ثلاث قوى متصارعة: «الهو» (مصدر الرغبات الغريزية)، و«الأنا» (الوعي الحاضر)، و«الأنا الأعلى» (الضمير والمعايير). والتناقض النفسي عند الإنسان هو نتيجة لصراع دائم بين هذه القوى. فلحظة البكاء تكون انتصارًا لقوة «الهو»، في حين أن لحظة القرار أو الثبات قد تكون استجابة لـ«الأنا الأعلى»، وبين الاثنين يحاول «الأنا» التوفيق والتوازن بينهما.

الصراع الداخلي عند الإنسان

أما «أرسطو»، فيلسوف الأخلاق والعقل، فقد قدم تفسيرًا مختلفًا. فالنفس عنده تتكون من جزء عقلاني وآخر انفعالي، وأن التناقض -أو ما يُولّد الصراع الداخلي- يحدث عندما يتصارع الرغبة والعقل. غير أن «أرسطو» لم يُنكر الانفعال، بل دعا إلى تهذيبه وتوجيهه بالعقل نحو الفضيلة. فحين يبكي الإنسان ويشعر بالضعف ثم يتخذ قرارًا عقلانيًا، فإن ذلك لا يعني ضعفًا، بل تدرّجًا طبيعيًا نحو حالة من الاتزان الأخلاقي.

خامسًا: عوامل التكوين

توجد عوامل تؤثر تأثيرًا كبيرًا على النفس والصراع الداخلي فيها، ومنها البيئة الاجتماعية، إذ تُعدّ البيئة مرآة تظهر قيم الفرد في سلوكه وتعامله مع أقرانه. ثم إن الخلفية الدينية تُعبّر عن سلوك الإنسان عند تعرضه لحالة من تقلبات الحياة، إذ إن الدين يؤثر في المعتقدات والشرائع التي ينص عليها.

وللحياة دور فعَّال أيضًا في تكوين النفس وصراعاتها، بالتجارب والدروس التي تمنحها للفرد لاختبار قوة تحمُّله حتى التربية، كلها عناصر تُصيغ ردود أفعالنا. فشخصية نشأت على كبت المشاعر قد تبكي فجأة، وشخص آخر مؤمن بفكرة «الرضا» قد يتخذ قرارًا حادًا بدافع الثقة بالله ليُعيد تنظيم نفسه، والتناقض أحيانًا لا يكون داخليًا فقط، بل أثر لصراع بين ما نؤمن به وما نشعر به.

إن الإنسان ليس كائنًا آليًا يعمل بقانون ثابت، بل روحًا حيّة تتقلّب تحت ضغوط الحياة، والحديث عن النفس الإنسانية لا ينتهي، ولقد رأينا في مقالنا أن الصراع الداخلي ليس دائمًا علامة على التخبّط، بل قد يكون أوضح دليل على أننا نحاول فهم أنفسنا، أو الوصول إلى نتيجة تُعيد الثقة والاتزان، وتُنتج فردًا جديدًا فاعلًا غير السابق، وللوصول أيضًا إلى مرحلة تُريح النفس بالتخلّي عما كانت تريده.

والسؤال الذي يظل مفتوحًا: هل الثبات الحقيقي للحالة النفسية يمكن أن يحدث يومًا ما؟ أم أن التقلّب والصراع هو الحالة الأصلية للوجود والحياة؟

أترك لكم مساحة التأمل والإجابة، وأتطلّع لسماع آرائكم.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.