التفكير الموضوعي وخصائصه وثمراته

مفهوم التَّفكير الموضوعي وخصائصه وثمراته .

لدراسة التَّفكير تاريخ طويل في شتَّى مجالات الفِكر، حيث لقي اهتمامًا واسعًا من قِبل الفلاسفة والمناطقة وعُلماء النَّفس والتَّربويين وغيرهم، واحتلَّت دراسة التَّفكير مكانة خاصة في علم النَّفس المُعاصر مع بداية النِّصف الثَّاني من القرن الماضي، وتبلورت في اتجاهات عديدة ومتنوِّعة .

ويُمثِّل التَّفكير الأداة التي يتصدَّى بها الإنسان لما يُواجهه من مُشكلات، سواء المُشكلات الآنيَّة أو المستقبليَّة، فمن خلال التَّفكير تتكوَّن مُعتقدات الفرد وميوله ونظرته لما حوله، وتتشكَّل اتجاهاته وقيمه وسلوكه ورؤيته للعالم، وعليه زاد الاهتمام البحثي بتنمية مهارات التَّفكير؛ أملًا في مزيد من الرُّقي الإنساني، والتَّغلُّب على مُختلِف المُعوِّقات التي تُواجه البشر، سواء النَّفسيَّة أو الاجتماعيَّة أو الاقتصاديَّة ([1]) .

أولًا : معنى التَّفكير :

على الرَّغم من تَعدُّد التَّعريفات المقدَّمة لمفهوم التَّفكير، فإنَّ أغلب الباحثين لم يتفقوا على تعريف واحد له، وربَّما يرجع ذلك لاختلاف المدراس العلميَّة التي ينتمي إليها كلٌّ منهم، أو إلى غموض المفهوم نفسه، حيث إنَّ التَّفكير عمليَّة داخليَّة لا يُمكن مُلاحظتها بشكل مباشر، بل يُستدلُّ عليها من خلال المظاهر السُّلوكيَّة التي يمكن مُلاحظتها أو قياسها، وهو ما يجعل من الصَّعب تحديده تحديدًا دقيقًا ([2]) .

فقد جاء في «لسان العرب» لابن منظور : « الفَكر ، والفِكر : إعمال الخاطر في الشَّيء»([3])  في وجاء في المعاجم الحديثة  ك«المعجم الوسيط» : «فكَّر في الأمر فكرًا : أعمل العقل فيه ورتَّب بعض ما يُعلم ليصل به إلى مجهول، وأفكر في الأمر: فكر فيه، فهو مُفكِّر، وفكّر في المشكلة: أعمل عقله فيها؛ ليتوصل إلى حلها » ([4]) .

وفي الاصطلاح :

وغالب التَّعريفات الواردة في التفكير وماهيته  تدور حول قضية واحدة، وهي : «تردد العقل في جملة من المُعطيات تَوسُّلًا إلى ما يرتبط بها من المجهول بطريقة منهجيَّة»([5]

ويُعرِّفه بعضهم بقوله : «هو عملية يقوم الإنسان عن طريقها بمعالجة عقلية للمدخلات الحسية ، والمعلومات المسترجعة؛ لتكوين الأرقام أو استدلالها ، أو الحكم عليها ، أو الرَّبط بين معانيها ودلالاتها ، وهو عملية مجردة لا يمكن تلمسها وتصويرها ، ولكن يمكن تتبع مساراتها غير المرئية من خلال ما يتحقق من نتائج ملموسة أو مجردة »  ([6]).

ويشير الدُّكتور فتحي جروان إلى التفكير باعتباره عملية كُلية نقوم عن طريقها بمعالجة عقلية للمدخلات الحسية والمعلومات المسترجعة؛ لتكوين الأفكار أو استدلالها أو الحكم عليها([7]) .

فلا يخرج التَّفكير عن اعتباره عمليَّة عقليَّة عُليا، لا تبدأ من فراغ، بل يُوظِّف فيها الفرد خبراته، وتجاربه السَّابقة، ومختلف قدراته العقليَّة؛ لاستقصاء ما يُقابله من مواقف أو مشكلات بغرض الوصول إلى نتائج وقرارات، فهو فعل عقلي واع يُميِّز الإنسان عن غيره، وهو عمليَّة داخلية غير مرئيَّة، وأدوات التَّفكير هي الرَّموز والمفاهيم والمعاني العقليَّة، وله مُحدِّدات مُوجهة من الزَّمن والموقف والموضوع .

الموضوعي: ما هو مُجرَّد عن غاية شَخصيَّة، عكسه ذاتيّ، وهو ما تتساوى عَلاقته بجميع المشاهدين برغم اختلاف الزَّوايا التي يُشاهدون منها، ويستلزم ذلك كون الحقائق العلميَّة مستقلّة عن قائليها، بعيدة عن التَّأثُّر بأهوائهم ومُيولهم ومصالحهم([8]) .

والموضوعيَّة مصطلح عرَّفه بعضهم بقوله : «تحليل علمي منطقي للأمور بعيدًا عن الذاتيَّة والتَّعصُّب والمغالاة والهوى» ([9]) .

 

وأمَّا تعريفه باعتباره مُركَّبًا فالتَّفكير الموضوعي عرَّفه هُولت : « بأنَّه مجموعة الأساليب والخطوات والأدوات التي تُمكِّننا من الوقوف على الحقيقة، والتَّعامل معها على ما هي عليه بعيدًا عن الذَّاتيَّة والمُؤثِّرات الخارجيَّة »([10]) .

 المَوضوعيَّة هي تَخلِّي الإنسان عن عواطفه، وانفعالاتِه، التي لا يقوم عليها دليلٌ نقلي أو عقلي تجاه مسألة من المسائل التي يَحتاج فيها إلى أخذ قرار، أو إصدار حُكم؛ شريطةَ أن تكون القضية - موضع الطَّرح - ممَّا تختلف فيه الأفهام، ويُتقبَّل فيه النِّقاش، وهي على هذا معيار أساسي من معايير البحث، يقوم على الصِّدق والعلم والأمانة، والبُعد عن الأهواء الشَّخصيَّة([11]) .

وعرَّفه صاحب كتاب التَّفكير وأنماطه : «بأنَّه التَّفكير الذي يَتلقَّى الأحداث الخارجيَّة، مُركِّزًا على حلول لها بطريقة منطقيَّة متفقة مع المبادئ والقيم» .

وعرَّفه بولينج : «بأنَّه سلسلة من النَّشاطات العقلية التي يقوم بها المُتعلِّم عندما يَتعرَّض لمُثير يتم استقباله عن طريق واحدة أو أكثر من الحواسِّ، وهو في معناه الواسع عمليَّة بحث عن معنى في الموقف أو الخبرة ([12]) .

وعرَّفه الدُّكتور يحيى الرَّخاوي : « بأنَّه التَّفكير الخالي من التَّأثُّر بالانفعال ومن التَّعصُّب، ويَسمح بالمُراجعة، ويَعتمد على الحقائق، وعلى أقلِّ قدر من الذَّاتيَّة» ([13]) .

وعليه فيُمكن تعريف التَّفكير الموضوعي بأنَّه أحد أنماط التَّفكير يكون بعيدًا عن الأهواء والمُيول الذَّاتيَّة والأغراض الشَّخصية عند الحكم على المواقف، والموضوعيَّة تعني أن الفرد عندما يقوم بتفسير نتائجه وبياناته ينبغي ألا يُفسِّرها بناءً على مِزاجه ومُيوله الشَّخصيَّة .

ويمكن تعريف التَّفكير الموضوعي بأنَّه فن التَّعامل مع الأفكار والمواقف والأشخاص والأحداث، وهو العمليَّة الذِّهنية التي يُنظِّم بها العقل خبرات ومعلومات الإنسان من أجل اتخاذ قرار مُعيَّن إزاء مشكلة ما أو موضوع مُحدَّد وَفق نَسق حِيادي مُتجرِّد عن الهوى والعاطفة في اتخاذ القرار أو أي شأن من شؤون الحياة ([14]) .

ويُعرف أيضًا : «بأنه قُدرة الفرد على مُلاحظة وتصنيف وفَهم وتفسير الظَّواهر العلميَّة، ومُعالجتها اعتمادًا على ما لديه من بيانات ومعلومات مُرتبطة بتلك الظَّواهر، والتَّنبؤ بها في المُستقبل بناءً على دراسة وتحليل الأسباب والنَّتائج المُترتِّبة عليها، واقتراح بدائل لمواجهتها، ومن ثم التَّحكُّم فيها بعيدًا عن التَّدخُّلات والأهواء الذَّاتية وفي إطار من الدِّقَّة» ([15]) .

فلا يُقصد في التَّفكير الموضوعي الذي يَنصَبُّ على مُشكلة بعينها أو حتى على مجموعة من المُشكلات المُحدَّدة التي يُعالجها العلماء، بل ما يُقصد هو ذلك النَّوع من التَّفكير المُنظَّم الَّذي يُمكن أن يستخدمه الفرد في حياته اليوميَّة أو في النَّشاط الذي يبذله حيث يمارس أعماله المهنيَّة المعتادة، أو في عَلاقاته مع العالم المُحيط به، وكل ما يُشترط في هذا النَّمط من التَّفكير هو أن يكون مُنظَّمًا، وأن يُبنَى على مجموعة من المبادئ التي يُطبِّقها الفرد في كل لحظة، وأن يشعر به شعورًا واعيًا، أي إنَّه العمليَّة العقليَّة التي يتم بمُوجِبها حل المشكلات أو اتخاذ القرارات بطريقة عملية من خلال التَّفكير المُنظَّم المنهجي .

ويعتمد التَّفكير الموضوعي في البحث عن الحقيقة وليس على الرَّغبات الذَّاتيَّة أو الخرافات أو الأهواء أو الخيالات أو الأوهام أو التَّعصُّب، وينهج في أسلوبه توخِّي الدِّقَّة والموضوعيَّة في ملاحظة الواقع وتسجيلها بطريقة مُنتظمة وتفسيرها تفسيرًا موضوعيًّا .

فالموضوعيَّة سمة من أهم سمات الشَّخصيَّة النَّاجحة، وأساس من أسس الحكم على صحَّة أو خطأ معلومة ما، وشرط أساسي لا بُدَّ من توافره عند اتخاذ قرار ما حتى يكون صائبًا، ومن أهم ما يَتميَّز به المُفكِّر الجيِّد .

فالموضوعيَّة تُعبِّر عن إدراك الأشياء على ما هي عليه دون أن يشوبها أهواء أو مصالح أو تَحيُّزات، أي تستند الأحكام إلى النَّظر إلى الحقائق على أساس العقل، وبعبارة أخرى تعني الموضوعيَّة الإيمان بأن لموضوعات المعرفة وجودًا مادِّيًّا خارجيًّا في الواقع، وأنَّ الذِّهن يستطيع أن يصل إلى إدراك الحقيقة الواقعيَّة القائمة بذاتها مستقلَّة عن النَّفس المُدركة، وعلى الجانب الآخر كلمة الذَّاتي تعني الفردي، أي ما يخصُّ شخصًا واحدًا، فإن وصف الشَّخص بأن تفكيره ذاتي فهذا يعني أنه اعتاد أن يجعل أحكامه مبنيَّة على شعوره وذوقه .

ويَتميَّز صاحب التَّفكير الموضوعي بالتَّحرُّر من أهوائه ونزعاته الذَّاتية فيحكم على الأشياء بحياد تامٍّ وعدم التَّعصب لرأي أو آخر، وإن لم يصل صاحبها إلى التَّمام فلا أقلّ من التُّجرُّد في أحكامه وآرائه .

وكما يقول إريك فروم : « إنَّ الموضوعيَّة لا تقتضي مُجرَّد رُؤية الشَّيء كما هو، بل كذلك أن يرى المرء نفسه كما يكون، أي أن يُدرك المجموعة التي يجد المرء نفسه فيها بوصفه ملاحِظًا مُتصِلًا بموضوع ملاحظته . . . . إنَّ الموضوعيَّة لا تعني التَّجرُّد، إنها تعني الاحترام، أي القُدرة على ألا يُحرِّف المرء ويُزوِّر الأشياء والأشخاص ونفسه وعدم اللُّجوء إلى تحريف تفكيره من أجل الوصول إلى النَّتائج المرجوَّة »([16]) .

 


([1]) ينظر : «التَّفكير النَّقدي أسسه وتنمية مهارته» ، إشراف أ .د محمد عثمان الخشت ، يناير 2019م (ص : 51 ).

([2]) ينظر : المصدر السابق ص : 52 .

([3]) ينظر : (5/65).

([4]) ينظر : «المعجم الوسيط» (2/698)  مادة (ف ك ر).

([5]) ينظر : «التَّفكير الموضوعي» للدكتور عبد الكريم بكار (ص : 14) .

([6]) ينظر :«التفكير من خلال استراتيجيات التعليم بالاكتشاف» ، مجدي عزيز إبراهيم ( وما بعدها 13) .

([7]) ينظر :  «تعليم التفكير مفاهيم وتطبيقات» للدكتور فتحي عبد الرحمن جروان (ص: 43) .

([8]) ينظر : «معجم اللغة العربية المعاصرة» (3/2457) .

([9]) ينظر : «منهجية البحث» ، د إميل يعقوب ص : 26 .

([10]) ينظر : «التَّفكير وأنماطه» (ص : 15) طبعة دار الكتب العلمية .

([11]) ينظر : «الموضوعية في العلوم التربوية» لعبد الرحمن بن صالح عبد الله ، دار المنارة ، جدة ، ط1 1407هـ ، ص : 6 .

([12]) ينظر : «التَّفكير وأنماطه» (ص : 15) ، طبعة دار الكتب العلمية .

([13]) ينظر : «من دليل الطالب الذكي في علم النفس والطب النفسي» ، د يحيى الرخاوي (ص : 138) .

([14]) ينظر : «التَّفكير وأنماطه» (ص : 17) طبعة دار الكتب العلمية .

([15]) ينظر : المصدر السابق (ص : 17) طبعة دار الكتب العلمية .

([16]) ينظر : «الإنسان من أجل ذاته» لإريك فروم (ص : 138) .

عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

نبذة عن الكاتب

عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر