يواجه النظام التربوي في تونس تحديًا دقيقًا يتمثل في التحول نحو التقييم المكثف بالاختبارات، ما يثير تساؤلات عن تأثير ذلك على جوهر التعليم وأهدافه المعرفية والقيمية. يستعرض هذا المقال بعمق كيف أدى هذا التركيز المتزايد على الامتحانات إلى تهميش الجوانب الأساسية للتعلم، مُلقيًا الضوء على العبء النفسي الذي يرزح تحته الطلاب وتأثير ذلك على سلوكهم وقيمهم الاجتماعية.
نتناول بالتحليل كيف يُقصي هذا النظام فئات معينة من المتعلمين ويُضعف مكانة المعرفة في المجتمع، قبل أن نقترح رؤى عملية لإعادة التعليم إلى مساره الصحيح كونه أداة بناء للأجيال، انضم إلينا في استكشاف هذه القضية التعليمية المهمة وتداعياتها على مستقبل تونس.
أصبح النظام التربوي في تونس يركز تركيزًا مكثفًا على التقييم الجزائي والاختبارات، ما أدى إلى تهميش الغايات المعرفية والقيمية للمدرسة. وأثر هذا التحوُّل مباشرة في جودة العملية التعليمية، وأدى إلى ظهور سلوكيات اجتماعية وأخلاقية سلبية، ما يهدد الدور الحقيقي للمدرسة في بناء أجيال واعية وقادرة على الإبداع.
كثافة الامتحانات تزاحم المعرفة وتثقل المتعلم
باتت الاختبارات في نظام التعليم التونسي أشبه بماراثون مرهق لا ينتهي بالنسبة للتلميذ، إذ تترابط الامتحانات الشفوية والكتابية والتطبيقية في سلسلة تبدو وكأنها لا فكاك منها، ما يضيف عبئًا نفسيًا ثقيلًا يحجب متعة التعلم.
وبين ضغط متابعة الدروس، وإنجاز الواجبات اليومية، والتحضير المستمر للاختبارات، يجد الطالب نفسه في دوامة لا تتيح له فرصة التقاط الأنفاس، فتتحول المدرسة من فضاء للمعرفة والاكتشاف إلى سجن للتقييم المستمر.
ويُشير علماء النفس التربوي إلى أن الإفراط في التقييمات يمكن أن يؤدي إلى قلق الاختبار (Test Anxiety) وتثبيط دافعية التعلم الجوهرية.
وبممارسة عملي مدرِّسًا ومتابعًا يوميًا لنفسية التلاميذ، ألاحظ بوضوح كيف يتحول الحماس الطبيعي للتعلم إلى خوف دائم من التقييم، فقد أصبحت وجوه الطلاب تظهر التعب والإرهاق أكثر من الفضول والشغف.
وقد أصبح التلاميذ يعبرون لي على نحو متكرر عن شعورهم بالإحباط والعجز عن مواكبة هذا العبء، ما يُبرز أزمة أعمق تتطلب إعادة التفكير في منظومة التعليم كله. هذا الواقع لا يظهر فقط معاناة فردية، بل يُبرز أزمة منهجية تُشوِّه رؤية التعليم بعده فرصة للنمو والتحقق، وتحوله إلى عبء ثقيل يثقل كاهل الجميع.
تأثير كثافة التقييمات الجزائية على العملية التعليمية
- الضغط على المتعلم: أصبح التركيز على النجاح الدراسي مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالاختبارات، ما ولَّد ضغطًا نفسيًا كبيرًا على الطلاب؛ لتتحول الامتحانات إلى عامل توتر نفسي حتى جسدي عند التلميذ يتحول تراكميًا إلى أمراض.
- تأثير الامتحانات في سلوك الطلاب: يؤدي هذا التركيز إلى لجوء التلاميذ لوسائل غير تربوية مثل الغش وعدم تبادل المعرفة، ما يقلِّل قيمة الاجتهاد والتعاون.
- تهميش المتعلمين من ذوي القدرات الدراسية والمادية المحدودة: يتجاهل النظام التربوي بهذه المواصفات أصحاب القدرات المتوسطة والفئات الفقيرة من المتعلمين، ما يسهم في انعدام العدالة الاجتماعية في التعليم. فالنجاح يصبح امتيازًا لا يتوافر إلا لمن يقدر على تغطية المصروفات المكلفة لدروس الدعم.
الأثر الاجتماعي لتغلب الجانب التقييمي
- تغير مكانة المعرفة: تحولت المعرفة من كونها غاية تعليمية إلى وسيلة لاجتياز الامتحانات فحسب، ما أضعف تقديرها في المجتمع.
- انحراف القيم الاجتماعية: أسهم الربط بين النجاح والثروة في غرس قيم سلبية مثل الانتهازية، التسلق، والرشوة.
- توتر العلاقات بين أطراف العملية التعليمية: أدت السياسات الحالية إلى خلق توتر بين الطلاب والمعلمين والعائلات، ما زاد من تنامي العنف المدرسي.
كيف نجعل التعليم أداة بناء؟
تعزيز التقييم التشخيصي والعلاجي: إعادة التركيز على فهم نقاط القوة والضعف لدى الطلاب لتوفير تعليم أكثر شمولية وذلك بتقليص مناسبات التقييم الجزائي، وتنزيل التقييم التشخيصي والعلاجي المكانة التي يستحقها من الزمن المدرسي.
ويُعد التقييم التشخيصي (Diagnostic Assessment) والعلاجي (Formative Assessment) أدوات أساسية لتوجيه التعلم وتحسينه.
تركيز العملية التعليمية على المهارات الأساسية: تعزيز مهارات التفكير النقدي والإبداعي لتجاوز الحدود الضيقة للتقييم الجزائي.
إعادة الاعتبار للقيم الأخلاقية: العمل على بناء مجتمع مدرسي يعتمد على النزاهة والتعاون، وذلك بإعادة صياغة مناهج التعلم وفق هذا التصور، وادخار جهد المتعلم وتركيزه لاكتساب المهارات الأولية وغرس القيم.
تصحيح نظرة المجتمع للنجاح: فصل النجاح المدرسي عن المعايير المادية مثل الثروة، والتركيز على الجهود الفردية والقدرات.
إن تهميش الغايات المعرفية والقيمية للمدرسة لمصلحة التقييم الجزائي والاختبارات يهدد مستقبل التعليم.
ولن تتمكن المدرسة أن تستعيد دورها الأساسي في بناء أجيال تعتمد على المعرفة والوعي إلا بتغيير السياسات التعليمية في اتجاه ترسيخ القيم أخلاقية ومجتمعية على أسس ثابتة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.