التربية الحقة

يتوق الإنسان بفطرته لأن ينجب، وأن يكون له أبناء يزيدون حياته ويدخلون على دنياه البهجة والسرور.. وعندما تتحقق هذه الأمنية، ترى الآباء والأمهات يعنون بصحة أطفالهم الجسمية؛ فيهتمون بتغذيتهم، ويراقبون نموهم، وينشدون لهم الرعاية الطبية، ويحرصون على حمايتهم من كل ما قد يعرقل هذا النمو الجسمي، لتغدو بنياتهم قوية وأجسادهم معافاة.. وبقدر ما يعنون بذلك، بقدر ما يهملون جانبًا آخر في حياة الطفل ولا يعطونه ما يستحق من الاهتمام.. ذلكم هو رعايته النفسية.

فالأسرة هي دائمًا الخلية الأولى التي يتم فيها صنع الأجيال وصقلهم ورعايتهم وتنشئتهم، وفيها تُشْبَع حاجات النفس البشرية في مهدها، على اختلاف هذه الحاجات المادية والروحية والنفسية.. ومن هنا حملت الأسرة مهام بناء الطفل.. الإنسان.. ككيان.. ومثل هذا البناء لا يكون على الوجه الصحيح إلا إذا كانت لدى الأسرة النظرة الشمولية لبنائه.. روحًا ونفسًا.

وإذا كنا نطمح في خلق جيل مؤمن، سليم، معافى، يحمل أعباء المستقبل والمسؤوليات وتبعاتها، فلا بد من إعطاء الصحة النفسية للطفل ما هي جديرة به من الاهتمام والرعاية.

وإذا كنا نسلِّم بأن فاقد الشيء لا يعطيه، فإننا نتفق على أن الأسرة، التي تضطلع بمسؤولية الطفل ومنحه الصحة النفسية المستقرة الآمنة، لا بد أن تتمتع هي أولًا بحياة نفسية سليمة.

ولما كانت بدايات الأسرة هي ما اصطلح البعض على تسميته بالأسرة النووية، التي تتكون من الأبوين والطفل، فإن علماء النفس يقرِّرون أن سلوك كل من الأبوين ونفسيتهما وسلوكهما وعلاقتهما ببعضهما بعضًا يؤثر أثرًا كبيرًا جدًّا على نفسية الطفل سواء سلبًا أو إيجابًا..

فعندما يهيمن على جو الأسرة الخصام، ويسوده التوتر، وتطفح المشكلات الصغيرة -التي لا بد منها- على سطحه، يخلق ذلك من العقد النفسية لدى الطفل الشيء الكثير مما لا تحمد عقباه، ثم تتفاقم الأمور، ويؤدي كثرة الخصام وانشغال الأبوين به إلى نسيان الطفل وإهماله، فيعيش ضائعًا تائهًا بلا حنان، ويبحث عن الود والوئام والاستقرار فلا يجد له أثرًا.

وقد يطفح الكيل، فيصل الأمر إلى الانفصال، وعندها تحدث الطامة الكبرى، التي قد لا تؤدي إلى انتهاء العلاقة بين الزوجين فقط، ولكنها تشمل الطفل حتى تتسبب في تحطيم نفسيته، وتؤول به إلى توتر عصبي عنيف قد لا يُرجى برؤه.

إن كثيرًا من الآباء لا يجدون حرجًا، ولا يترددون في إظهار علامات الخصام بالقول أو الفعل أمام أبنائهم، مع ما لذلك من آثار سلبية وخيمة على الطفل، ولكنهم يعيبون على أنفسهم، ويتجنبون أن يظهروا دلائل المحبة والوفاق والمودة والرحمة بالقول والفعل أمامهم.

وفي الوقت الذي يحتاج الطفل فيه إلى الحب والحنان، فإنه لا غنى له عن بعض الشدة والجد، فكما أن للإفراط في الشدة والخصام نتائج وخيمة على الطفل ونفسيته، فإن التدليل واللين إذا تجاوزا حديهما قد يؤديان إلى النتائج المذمومة ذاتها.

المرجع

ص 13 المجلة الطبية العدد 81 شعبان / رمضان 1414 هـ الموافق يناير / فبراير 1994م

 

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة