التجربة السنغافورية.. قصة النهوض الاقتصادي والتحول إلى أغنى دولة في العالم

لي كوان يو، هذا ليس اسم وجبة صينية شعبية، ولكنه اسم أول رئيس وزراء لدولة سنغافورة. ذلك الرجل الذي وقف على المنصة تسبقه دموعه معلنًا عن استقلال هذه الجزيرة الصغيرة التي كانت مجرد إقليم ماليزي منبوذ، وتحوَّلت بفضل جهود الشعب والحكومة إلى واحدة من أثرى الدول على مستوى العالم. 

من مطار رائع يسر الناظرين إلى المباني الشاهقة، معالم كثيرة تميَّزت بها دولة سنغافورة التي أصبحت أيقونة الاستثمار الخارجي على مستوى العالم. فقد نجحت التدابير الحكومية وسياسة تغيير سلوك الشعب التي اتبعتها الحكومات المتوالية على مدار ستة عقود أن تصنع من هذه الجزيرة قوة اقتصادية لا يُستهان بها، وأغنى دولة في العالم حسب تقرير لشبكة CNN الاقتصادية.

نبذة عن تاريخ سنغافورة

تترجم كلمة سنغافورة باللغة العربية بمدينة الأسد. ويقال إن مَن سمَّى هذه المدينة بهذا الاسم هم الرهبان البوذيون؛ لأن الأسد يمثل رمزًا مهمًّا في هذه الديانة. ويقول رأي آخر إنه عندما أتى الأمير سري تري بوانا إمبراطور سريفيجايا إلى هذه الجزيرة لمح نمرًا، واعتقد أنه أسد، فسمَّى المدينة باسم مدينة الأسد. وتستطيع أن تعد سنغافورة دولة أو جزيرة أو مدينة نظرًا لمساحتها المحدودة. 

وفي أواخر القرن الثالث عشر الميلادي أُنشئت مملكة سنغافورة، وقد كانت ميناءً تجاريًّا مشهورًا على مستوى قارة آسيا. وفي البداية، كانت مستقلة عن السلطنة التي كان مركزها في ماليزيا آنذاك، ولكنها سرعان ما انضمت لها في القرن السادس عشر. وفي القرن التاسع عشر استولت بريطانيا على الجزيرة لكي تكون مركزًا تجاريًّا يخدم الشركة البريطانية الهندية. 

وفي عام 1959 تمتعت سنغافورة بحكم ذاتي تحت الحماية البريطانية، ولكن بعد سنتين فقط أُعلن عن انضمام سنغافورة إلى ماليزيا، وقد سمحت بريطانيا بهذا الانضمام خوفًا على سنغافورة من الصراعات السياسية المحتملة. ولكن هذا لم يشفع، فقد وقعت كثير من الاحتجاجات والفوضى في سنغافورة، ووقع كثير من الضحايا على أثر ذلك، حتى أعلن رئيس الوزراء لي كوان يو استقلال سنغافورة عن الاتحاد الماليزي. وفي الواقع، اضطرت دولة ماليزيا إلى طرد هذه الجزيرة من حوزتها نظرًا للمشكلات التي كانت تجلبها التي كانت تهدد استقرار البلاد. 

كيف تقدمت سنغافورة؟

أعلن لي كوان يو عن تأسيس دولة سنغافورة واستقلالها عن ماليزيا عام 1965. وكانت الجزيرة تعاني تدني مستوى التعليم وارتفاع معدلات البطالة وقلة الموارد الطبيعية بالمقارنة بالدول المجاورة؛ لذلك، كان يتحمل عبئًا كبيرًا، ولا توجد مساعدات تعينه على بناء دولة جديدة؛ لذلك، فكَّر في فكرة تعد خارج الصندوق وقتئذ، وهي محاربة الفساد، وجلب رجال الأعمال الأجانب لكي يزيد حجم الاستثمارات، وتعيين أصحاب الكفاءة في المناصب المهمة في الدولة. 

عيَّنت الحكومة فريقًا يُسمى فريق الرؤى السلوكية، وقد عمل هذا الفريق على ما عُرف بنظرية التحفيز التي تهدف إلى تغيير سلوك المواطنين دون إشعارهم بذلك الأمر ودون مصادرة حرياتهم. 

وحاربت الدولة الفساد، واتخذت من سلوك النظافة شعارًا للتقدم الحضاري لهم، فقد حرصت الدولة على توجيه سلوك الشعب عن طريق نظرية التحفيز نحو النظافة.

وقد انقسمت النظافة إلى شقين مهمَّين: أولهما هو الشق المادي المتمثل في نظافة الشوارع والبيئة، فمن ضمن القرارات الغريبة التي اتخذت في هذا الصدد منع أكل العلكة. أما الشق الثاني من النظافة فهي نظافة يد الحكومة من أي ممارسات فاسدة، ومن يثبت عليه أي حادث من حوادث الفساد يُحاسب ويُعاقب ليكون عبرة لغيره. 

تبنَّت حكومة لي كوان يو كثيرًا من الحملات الأخرى إلى جانب حملة النظافة، مثل حملة لتنظيم الأسرة بإجبار الأسرة عن طريق التحفيز على ألا تنجب أكثر من طفلين، وحملة أخرى على تعميم التحدث بلغة المندرين (لغة صينية شعبية قديمة) لزيادة التماسك داخل النسيج المجتمعي، ولا سيما أن هذا المجتمع يتكون من مجموعة مختلفة من الديانات والأعراق. 

ومن هذا المنطلق صاغت الحكومة السنغافورية مجموعة من الأهداف تهدف إلى جذب المستثمرين الأجانب لتكون سنغافورة القطعة الأكثر تقدمًا وسط مجموعة من الدول النامية. 

كيف حفَّزت سنغافورة مواطنيها لتغيير سلوكياتهم؟

لقد استخدمت الحكومة السنغافورية كثيرًا من أساليب التحفيز من أجل تغيير سلوك الشعب وتوجيهه نحو السلوكيات والأفعال التي من شأنها أن تضع الدولة في مصافِّ الدول المتقدمة. 

فمثلًا، قدمت الحكومية حوافز مالية لمقدمي المأكولات والأطعمة التجارية عندما يوفرون بديلا صحيا للمستهلكين، فعندما تتجول داخل الأسواق تجد لافتات حمراء معلقة على أبواب المتاجر تعلن توافر بديل صحي للأطعمة المباعة في هذا المتجر، وأيضًا تعلن أخرى عن أن الطعام المطهو في هذا المتجر مطهو بزيت صحي. 

ووفَّرت الحكومة كثيرًا من المتاجر التي تبيع المأكولات والمشروبات الصحية بدلًا من المأكولات والمشروبات الأخرى الأكثر انتشارًا ولكن بأسعار أقل. 

وأقامت الحكومة صندوقًا ماليًّا من أجل تشجيع أفراد المجتمع على الادخار على المدى الطويل؛ من أجل تمويل العملية التعليمية، وتوفير معاشات لأفراد الأسرة التي تدخر في هذا الصندوق. ووفرت أيضًا حوافز مالية واجتماعية للأسر التي لا تنجب أكثر من طفلين. 

وعندما بدأ عدد المواليد في الانحسار على نحو مخيف في البلاد، وفَّرت حوافز مالية للأسر التي تزيد إنجاب الأطفال. 

ووفَّرت الحكومة تطبيقًا إلكترونيًّا يحمله المواطنون على هواتفهم الذكية لتتبع الحركات والنشاط الرياضي لكل مواطن، على أن تقدم الحكومة حوافز مادية وعينية لكل من يزيد نشاطه وتمارينه الرياضة، ويحرص على هذه العادة يوميًّا. 

وعلى الرغم من الاتهامات التي تلقاها لي كوان يو التي تتعلق بتدخله على نحو كبير في الحياة الشخصية للمواطنين، فقد علَّق على هذا الأمر بعدم الإنكار، ولكن كان مبرره أنه لولا تبني هذه السياسة في التعامل مع سلوكيات المواطنين لما وصلت سنغافورة إلى ما وصلت إليه الآن.