البنيوية واستكشاف البنى الخفية في الثقافة واللغة

تُعد البنيوية أحد أبرز المناهج التحليلية في العلوم الإنسانية، إذ أثَّرت تأثيرًا كبيرًا في فهم الظواهر الثقافية واللغوية، وقد نشأت هذه المقاربة في القرن العشرين استجابةً لتحديات تعقيد العالم المعاصر، مُسلِّطةً الضوء على البُنى العميقة التي تحكم هذه الظواهر.

وتسعى البنيوية انطلاقًا من تناولها للعلاقات الداخلية ضمن الأنظمة الكلية إلى تقديم فهم شامل يتجاوز المظاهر السطحية. وقد ارتبط هذا المنهج بأسماءٍ بارزةٍ مثل فرديناند دو سوسور في اللسانيات، وكلود ليفي شتراوس في الأنثروبولوجيا، ما يظهر اتِّساع نطاق تطبيقاته وعمق تأثيره.

البنيوية ومحاولة التأسيس

كان سوسور أول من وضع الأسس النظرية للبنيوية عبر تمييزه بين اللغة (Langue)، بعدِّها النظام البنيويَّ الثابت، والكلام (Parole) كممارسة فردية عابرة؛ فالبنيوية لا تهتم بالحدث العابر، بل بالبُنى الخفية التي تتحكم في إنتاج الدلالة. وفي مواجهة النقد الذي وُجِّه إليها لاحقًا، أكَّد ليفي شتراوس أنَّ البنيوية ليست نظرية مغلقة، بل أداة لرصد الأنماط الكونية في الثقافة، كالقرابة والأساطير، التي تعكس بنى عقلية مشتركة بين البشر.

كان سوسور أول من وضع الأسس النظرية للبنيوية عبر تمييزه بين اللغة والكلام كممارسة فردية عابرة

البنيوية والأنساق الكونية

في كتابه الأنثروبولوجيا البنيوية (1958)، رأى ليفي شتراوس أنَّ المهمة الأساسية للباحث هي اكتشاف "البنى اللاشعورية" التي تنظم الثقافة، تمامًا كما تنظم القواعد النحوية اللغة. هذه البُنى لا تُختزل إلى وعي الأفراد، بل تشبهُ الرياضياتِ في تجريدِها وانتظامها؛ فالبنيويةُ هنا تتحوّلُ إلى مشروعٍ علميٍّ يبحث عن الثوابت الخفية التي تتجاوزُ التنوعَ الظاهري، سواء في الأساطير، أو الفن، أو العلاقات الاجتماعية.

رأى ليفي شتراوس أنَّ المهمة الأساسية للباحث هي اكتشاف "البنى اللاشعورية" التي تنظم الثقافة

البنيوية وسؤال الجوهر

إذا كان الفكر الفلسفي التقليدي يركز على سؤال الجوهر: "ما الحقيقة؟"، فإنَّ البنيوية تحول الانتباه إلى العلاقات بين العناصر داخل النسق؛ فالمعنى، بالنسبة لسوسور، لا ينبعُ من الصلة بين الكلمة والشيء المادي، بل من الفروق بين العلامات داخل النظام اللغوي؛ فكلمة "أبيض" لا تحمل معناها إلا بوجود "أسود"، وهكذا. هذا الانزياح من الجوهر إلى العلاقة هو ما يُميِّزُ البنيوية كقطيعةٍ مع الميتافيزيقا التقليدية.

اللغة كنظام مغلق

وفقًا لسوسور، اللغة نظام من العلامات المترابطة تحكمها قواعد ثابتة، تُشبهُ لعبة الشطرنج؛ فقيمة كلِّ قطعة (العلامة) تتحدد بموقعها ضمن الشبكة الكلية، لا بخصائصها المادية. أثَّر هذا التصور بعمق في مجالات أخرى مثل التحليل الأدبي عند رولان بارت الذي رأى أنَّ النص ليس تعبيرًا عن نية المؤلف، بل حقلٌ دلاليٌّ تنتجه البُنى الداخلية للنص نفسه.

رأى لوران بارت أنَّ النص ليس تعبيرًا عن نية المؤلف بل حقل دلالي تنتجه البُنى الداخلية للنص نفسه

البنيوية وتهميش الذات

من أبرز الانتقادات التي وجهت للبنيوية اتهامها بإلغاء دور الذات الفاعلة؛ ففي التحليل البنيوي، يصبح الفرد مجرد حامل للبنى التي تسبقه وتشكله، سواءٌ أكانت لغويةً أم ثقافية. حتى في التحليلِ النفسيِّ عند جاك لاكان الذي استعار مفاهيم بنيوية، يصبح اللاوعي "منظوما كلغة"، ما يعني أنَّ الذات ليست سوى تأثير للنسق الرمزي المحيط بها.

البنيوية الداخلية والخارجية

تعمل البنيوية على مستويين: داخليًّا عبر تفكيك النص إلى مكوناته البنيوية (الثنائيات الضدية، الأنماط المتكررة)، وخارجيًّا عبر مقارنة النصوص ببعضها لاكتشاف الأنساق الكونية. لكنَّ ليفي شتراوس حذَّر من اختزال البنيوية إلى مجرد تقنية تحليلية، مؤكِّدًا أنَّ هدفها الأعمق هو الكشف عن "المنطق الخفي" الذي ينظم الوجود الإنساني، البدائي أو الحديث على حد سواء.

النقد الموجَّه إلى البنيوية

تعرَّضت البنيوية لانتقادات حادة، لعلَّ من أبرزها اتهامها بالتجريد المفرط وإهمال السياق التاريخي والاجتماعي؛ فتركيزها على البنى الثابتة جعلها عاجزة عن تفسير التغير والصراع، ثم إن ادعاءها الكونية قوبل بتهمة "الإمبريالية الثقافية"، خاصة بعد تبنيها في الدراسات الأدبية التي حولت النصوص إلى كيانات معزولة عن واقعها. إضافة إلى ذلك، اتُّهمت البنيوية بإلغاء الإرادة الإنسانية، ما مهَّدَ الطريقَ لظهور ما بعد البنيوية كونه ردة فعل ترفض الثبات وتؤكد التفكك والانزياح.

لم تكن ما بعد البنيوية -بما  في ذلك تفكيكية دريدا- سوى حوار مع إشكاليات البنيوية نفسها

إرث البنيوية بين التأسيس والتفكيك

على الرغم من تراجعها كونها تيارًا سائدًا، فقد تركت البنيوية إرثًا لا يمكن إنكاره؛ فـما بعد البنيوية، بما في ذلك تفكيكية جاك دريدا، لم تكن سوى حوار مع إشكاليات البنيوية نفسها، ثم إنَّ تأثيرها امتدَّ إلى علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي عبر مفهوم "النسق المغلق". لكنَّ دروسها الأهم تكمن في تذكيرنا بأنَّ الظواهر، مهما بدت عشوائية، تخضع لأنساق خفية، حتى لو كانت تلك الأنساق نفسها قابلة للتفكيك.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة