رغم الترابط الرقمي، يعاني كثيرون من الوحدة بسبب تراجع التواصل الحقيقي، فقد أدى الإفراط في استخدام الإنترنت إلى عزلة اجتماعية وزيادة القلق والاكتئاب. والمشكلة ليست في التكنولوجيا، بل في كيفية استخدامها، فقد استبدلنا بالتفاعل الفعلي الرسائل والرموز التعبيرية. ولتحقيق التوازن، يمكن تبني "التخلص الرقمي" والعودة للتواصل المباشر. فالتكنولوجيا وسيلة، ويجب ألا تصبح حاجزًا بيننا وبين العلاقات الحقيقية.
الانعزال الرقمي.. الوحدة في عصر الاتصال
في عالم يزداد ترابطه رقميًّا كل يوم، أصبح من الصعب أن نتخيل الحياة بدون الإنترنت. فهو يحيط بنا في كل جانب من جوانب حياتنا، من العمل والتعليم إلى التواصل والترفيه. ومع ذلك، على الرغم من هذا الاتصال المستمر، نجد أنفسنا نشعر بوحدة لم نعهدها من قبل.
المفارقة أن التكنولوجيا التي كان من المفترض أن تقربنا من بعضنا بعضًا، باتت تفصلنا عن التواصل الحقيقي؛ ما خلق ظاهرة جديدة تُعرف بالانعزال الرقمي، أصبحنا نقضي ساعات طويلة أمام الشاشات دون إحساس بالوقت، نتابع حياة الآخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي ونتذمر من حياتنا بأنها لماذا لم تكن مثل حياة المشهور هذا أو ذاك، نشارك أفكارنا وصورنا حتى نجلب المشاهدات ونصبح مشاهير، لكن دون تفاعل حقيقي.
لم نعد نجلس مع العائلة، وخصوصًا الوالدين أو الأصدقاء، دون أن تتخلل أحاديثنا نظرات متكررة إلى الهاتف، وهذا شيء في أغلب الأحيان يؤثر في علاقات الناس مع بعضهم بعضًا.
في المقاهي والتجمعات، أصبح المشهد مألوفًا: مجموعة من الأشخاص يجلسون معًا، لكن كلًّا منهم غارق في عالمه الرقمي الخاص، أصبحنا نجتمع من غير أي تواصل بصري، فقط كل شخص يمسك هاتفه ويبدأ في مشاهدة بعض المشاهير، ومن موقع إلى موقع ومن فيديو إلى فيديو، كأننا فقدنا القدرة على التواصل الحقيقي، وأصبحنا أكثر راحة في التفاعل من وراء الشاشات.
كلما قلَّ الوقت الذي تقضيه على شاشتك، زادت الفرص أمامك لعيش حياة أكثر ثراءً وإشباعًا. فليت الزمان يعود حينما كانت العائلة تجتمع، وصوت قهقهة الضحكات التي كانت تدخل إلى القلب الفرح والسرور، وكان يوم الجمعة يوم تجمع العائلة من غير أي شيء يخرب عليهم اللحظات الحلوة، من غير أي تليفون ولا أي مواقع تواصل اجتماعي، ليت الزمان يعود حينما كانت حياتنا أكثر سلاسة وسهولة في التواصل مع بعضنا بعضًا.
لقد استنزف الإنترنت منا كثيرًا من طاقتنا وطريقة تفكيرنا، وبدل أن نصير أوعى صرنا أغبى من الأجيال السابقة، فالأجيال السابقة لم تكن تعرف شيئًا اسمه إنترنت، ولا كان متوفرًا عندهم أي سبل للبحث السريع مثل هذا الوقت. فالآن أي شيء تريده تدخل على شات GPT يخرج لك المعلومة، وأنت لا فكرت فيها ولا اطلعت على معلومات جديدة، ولا فكرت وأعملت عقلك لتقرأ كتبًا أولًا حتى تزيد معرفتك، ليس فقط حول الموضوع الذي تريده ولكن لتزيد معرفتك بأمور أخرى.
كما قال نيكولاس كار في كتاب (السطحيون: كيف يغير الإنترنت طريقة تفكيرنا وقراءة عقولنا): هذا الاعتماد المفرط على الإنترنت لم يقتصر على تغيير أسلوب حياتنا، بل أثَّر بعمق في صحتنا النفسية. وتشير الدراسات إلى أن الإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي مرتبط بزيادة مشاعر القلق والاكتئاب، فيجد كثيرون أنفسهم عالقين في دوامة من المقارنات الاجتماعية. نرى صورًا لحياة الآخرين المثالية، ونشعر أن حياتنا أقل إثارة أو نجاحًا، دون أن ندرك أن هذه الصور ليست سوى أجزاء منتقاة بعناية من الواقع. هذا الضغط المستمر، إلى جانب العزلة الناتجة عن قلة التفاعل الحقيقي، يجعلنا نشعر بوحدة أكبر، حتى ونحن محاطون بمئات الأصدقاء الافتراضيين، ويمكن أن يكون هؤلاء الأصدقاء سببًا في دمار وانتحار شخص بسبب ما فعله صديقه الافتراضي أو الإلكتروني، ويمكن حتى أن يكون سبب فشله هم الأصدقاء الافتراضيون.
المشكلة لا تكمن في التكنولوجيا بحد ذاتها، بل في الطريقة التي اخترنا أن نستخدمها بها. ونحن من سمحنا لها بأن تستحوذ على حياتنا، وأن تحل محل التواصل الفعلي. ولم نعد نكلف أنفسنا عناء زيارة الأصدقاء أو حتى الاتصال بهم، ما دام يمكننا إرسال رسالة نصية أو تعليق سريع. حتى المشاعر أصبحت تُختصر في رموز تعبيرية، وكأن العواطف يمكن اختزالها في وجوه صفراء مبتسمة أو باكية. لكن مثلما توجد سلبيات للإنترنت توجد إيجابيات.
إيجابيات الإنترنت
أولًا: توعية الناس إذا تم استخدامه على نحو صحيح لأشياء وأبحاث ومعلومات جديدة يمكن من خلالها الشخص أن يصبح أذكى.
ثانيًا: التعرف على ثقافات الشعوب العربية والغربية دون الذهاب إليها، بفضل يوتيوب الذي قدَّم لنا رحَّالين عالميين زاروا دولًا كثيرة وعرَّفونا على ثقافات وعادات وتقاليد مجتمعات ما تخيلناها.
ثالثًا: سهولة التواصل مع أقاربنا المغتربين، وأصبحنا نطمئن عليهم عبر مراسلات وفيديوهات دون أن نسافر لهم.
رابعًا: معرفة الأحداث العالمية وماذا يحدث في الدول المجاورة لنا.
سلبيات الإنترنت
أولًا: زيادة مرض التوحد عند الأطفال بسبب انعزالهم عن الناس والغوص في حرب وعالم التكنولوجيا مع أنهم أطفال، والتفكير على نحو أكبر من عمرهم.
ثانيًا: تقليل الترابط الأسري، وزيادة التفكك الأسري ونسبة الطلاق.
ثالثًا: جعل الإنسان أكثر غباءً بسبب أنه عندما يريد أي شيء سواء كان متعلقًا بالدراسة أو بالعمل يفتح مواقع بحث تسهل عليه الموضوع دون تفكير.
رابعًا: زيادة الفتن بين الناس والشعوب الأخرى.
وصلنا إلى مرحلة أننا لا نتخلى عن الهاتف حتى لو ذهبنا إلى المرحاض، أو حتى في الجلسات العائلية، أينما ذهبنا نرى عائلة كاملة من الأب حتى الحفيد ملتهية بالهاتف، وأصبحنا نلتهي بالهاتف والشاشة معًا، ولا يمكن الاستغناء عنهما سويًا.
يجب حل هذه المشكلة بالعودة إلى العادات البسيطة. قد يبدو من المستحيل في عصرنا الحالي أن نعيش بدون الإنترنت، لكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع إيجاد توازن صحي بين العالمين الرقمي والواقعي. هناك من بدأوا بتبني مفهوم "التخلص الرقمي"، حيث يخصصون أوقاتًا يومية أو أسبوعية للابتعاد عن الأجهزة، والتركيز على التفاعل المباشر مع الناس من حولهم. فالعودة إلى العادات البسيطة، مثل قراءة كتاب بدلًا من تصفح الهاتف قبل النوم، أو الاستمتاع بنزهة دون حاجة إلى توثيقها على وسائل التواصل الاجتماعي، قد تكون بداية لاستعادة جزء مما فقدناه في زحمة العالم الافتراضي.
نحن بحاجة إلى إعادة النظر في علاقتنا بالتكنولوجيا، إلى استخدامها بوعي بدلًا من أن نسمح لها بالتحكم بنا. لا بأس من الابتعاد قليلًا عن الشاشات، والاستمتاع بلحظاتنا دون حاجة إلى مشاركتها، والعودة إلى المحادثات الحقيقية بدلًا من الاكتفاء برسائل مقتبسة، فحتى الرسائل التي تعبر فيها عن شعورك أصبح من السهل أن تكون مقتبسة من مواقع البحث.
فبسبب الترابط الرقمي، يعاني الكثيرون من الوحدة بسبب تراجع التواصل الحقيقي. أدى الإفراط في استخدام الإنترنت إلى عزلة اجتماعية وزيادة القلق والاكتئاب؛ لذا يجب العودة للتواصل المباشر. فالتكنولوجيا وسيلة، ويجب ألا تصبح حاجزًا بيننا وبين العلاقات الحقيقية.
في النهاية، التكنولوجيا وُجدت لخدمتنا، لا لنصبح عبيدًا لها.
أبدعتي يا هديل موفقة يارب 💜💜
A very wonderful article and I wish you success 🤏😌
👍👍👍
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.