يولد الإنسان صفحة بيضاء لا يعلم شراً ولا خيراً، لكنه خلق في أحسن تقويم، وفي أحسن خلقة جسدية ونفسية، فتجد خلقته طيبة، ونفسه صافية تتوافق مع كل شيء حسن، وتنفر من كل شيء قبيح، فهذه الفطرة التي خلق الله الخلق عليها، فطرة تتوافق مع الحق والصالح، ولا تتوافق مع الباطل والفاسد من الأشياء.
ولما كانت هذه الخلقة معدة للنمو والتعلم حتى تخوض معترك الحياة، وتقوم بدورها الإنساني في مسيرة حياتها فتبدأ بالتعلم شيئاً فشيئاً من محيطها، بداية من تعلم لغة الكلام وتمييز الصور والأصوات ومع نمو العقل تبدأ بتعلم الأفكار والسلوك والعلوم المختلفة.
عندما تكون التنشئة جيدة والتعليم سليماً والتربية صالحة تتوافق مع هذه الفطرة أو البذرة الطيبة يكبر الإنسان ويكون صالحاً نافعاً لنفسه ولمجتمعه، والعكس لو كانت التنشئة سيئة والتربية خاطئة والقدوة سيئة لا تتوافق مع الفطرة السليمة التي خُلق عليها الإنسان فإنه ينتكس وتتشوه لديه هذه الفطرة وينحدر لدرجة أقل من الحيوانات والبهائم.
فكل البشر بفطرتها السليمة تميل إلى الخير والحق والجمال، لكن عندما تنتكس فطرتهم يميلون إلى عكس ذلك، يميلون إلى الشر والظلم والقبح.
إن أصحاب الأفعال القبيحة قد تشوهت فطرتهم حتى أصبحوا يستعذبون القبح وينفرون من الحسن.
هناك أشخاص يحبون رائحة الكاز ويكرهون رائحة الياسمين، يحبون الحرام ويكرهون الحلال، يحبون الحيوان ويكرهون الإنسان، يعادون كل ما هو سليم ومستقيم، يعادون الطبيعة، ويحبون ويشجعون الشذوذ في كل صوره وأشكاله، في الفكر والمشاعر والجسد، فكل الجرائم التي تحدث في حق البشر والطبيعة منبعها انتكاس وتشوه هذه الفطرة السليمة التي خلق عليها الإنسان.
الفطرة نهر صافٍ يجري داخل جسم الإنسان عندما تلقى فيه قاذورات العلم والتعلم والبيئة المحيطة فإنه يتعكر ويتلوث، يتغير لونه إلى لون قاتم وتتغير رائحته إلى رائحة منتنة، ويصبح غير صالح إلا لتلقي المزيد من القاذورات.
فإذا ألقيت فيه شيئاً حسناً لا يظهر، ولا يكون له أي تأثير، بل إنه ينقل العدوى والمرض لمحيطه وأقرانه والنشء من أبنائه فيفسد المجتمع بأثره.
والفطرة لا تنتكس بسبب التنشئة والتربية في مرحلة الطفولة فقط، بل إنها معرضة للانتكاس في كل مرحلة من مراحل عمر الإنسان بسبب البيئة والجو العام الذي يعيش فيه الفرد، فكم من شخص نشأ في بيئة جيدة نظيفاً وصالحاً لوثته بيئة العمل أو بيئة الأصدقاء، فنكص على عقبيه، وتحول من شخص صالح إلى شخص فاسد إذا لم يجد ما يعينه على المحافظة على سلامة فطرته وطبيعته، ولم يكن لديه من العلم ووسائل الدفاع النفسي والفكري ما يصد به تيار الفطرة المنتكسة حوله.
والفطرة داخل الإنسان كل لا يتجزأ، فإذا كانت الفطرة سليمة انعكست على كل أفعاله، فهي تمنعه من ارتكاب أي فعل شاذ وقبيح مهما كان صغيراً أو كبيراً حتى إذا وقع منه فعل خاطئ دون قصد منه فإنه يشعر بالسوء وتأنيب الضمير، ويعود أدراجه ويتطهر من هذا الفعل ويحاول التخلص من آثاره، أما إذا فسدت هذه الفطرة تماماً فإنه يكون عرضة لعمل كل فعل قبيح وشائن، ولا يشعر بالذنب أو تأنيب الضمير، ويصبح إنساناً مشوهاً تماماً لا يصلحه شيء.
وفساد الفطرة يحدث تدريجياً بعد خطوات من الممارسات الخاطئة والتعرض للقبح مرات عديدة حتى تعتاده وتتعود عليه، فيطبع القبح هذه الفطرة ويغطي عليها فينعدم وجودها وتأثيرها، من هنا كانت أهمية المحافظة على هذه الفطرة السليمة ومراعاتها جيداً، وعدم التعرض للممارسات الخاطئة والأفكار الشاذة وعدم التواجد في البيئات المنحلة؛ لكي يبتعد الإنسان عن الانحطاط الأخلاقي ويحافظ على كونه إنساناً سوياً.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.