كما يحتاج الإنسان إلى الأكل والنوم والراحة والشرب لينمو جسده ويشتد، فإنه يحتاج أيضًا إلى الحب والاحترام والتقدير ليصل إلى حالة السلام النفسي أو الانتعاش الداخلي، فاحتياجاتنا النفسية لا تقل أهمية عن احتياجاتنا الجسدية، بل هي الوقود الذي يمد أرواحنا بالحياة، وإهمالها لا يؤدي فقط إلى الحزن، بل إلى ذبول داخلي يشبه الجوع الصامت.
الاحتياجات العاطفية في هرم ماسلو
في علم النفس، أوضح العالم أبراهام ماسلو في نظريته الشهيرة عن هرم الاحتياجات الإنسانية أن الإنسان لا يمكنه الوصول إلى السعادة أو تحقيق ذاته إلا إذا أشبع احتياجاته بالترتيب، فبعد أن يشبع احتياجاته الفسيولوجية مثل الأكل والنوم والشراب، يأتي دور الاحتياجات العاطفية؛ وهي الحاجة إلى الحب والانتماء والتقدير والشعور بالأمان النفسي. تمامًا كما يحتاج الجسد إلى الطعام لينمو، يحتاج القلب إلى الحب لينضج، فالشعور بأننا «مرئيون» ومحبوبون كما نحن هو أول خطوة نحو الاتزان النفسي. وكما توجد احتياجات فسيولوجية أساسية لا غنى عنها، فإن هناك أيضًا احتياجات عاطفية أساسية لا غنى عنها.

في نظرية التعلق Attachment Theory» التي وضعها العالم جون بولبي (John Bowlby)، يولد الإنسان مزودًا بما يسمى «الاحتياجات العاطفية الأساسية»، وهي: أن يُرى ويُفهم «To be seen»، وأن يُحب بلا شروط «To be loved»، وأن يُسمع ويُحترم «To be respected»، وأن يشعر أن له قيمة، وأن يكون حرًا في قول «لا» دون خوف «To say no»، وأن يحب «To love».
هذه الاحتياجات لا تتوقف عند الطفولة، بل تمتد إلى كل مراحل حياتنا، وهي التي تحدد مدى نضجنا العاطفي وقدرتنا على بناء علاقات صحية. فمن لم يُشبعها في طفولته سيبحث عنها لاحقًا -ربما في علاقة عاطفية، أو في الصداقات، أو حتى في النجاح المهني- لكنها تظل في جوهرها صرخة غير مسموعة من القلب: «أريد أن يُراني أحد».
التفاوت في الاحتياجات والتوازن النفسي
نحن متفاوتون كثيرًا في احتياجاتنا العاطفية؛ فمنا من يرى المشاعر قيمته العليا، ومِنا من يرى الماديات قيمته العليا، ومنا من يرى الاحترام والتقدير قيمته العليا. نحن لا نمتلك جميعًا القيمة العليا نفسها، فكل منا يرى الحياة بنظرة تختلف عن الآخر. نحن جميعًا نحتاج إلى الاحتياجات النفسية الأساسية، ولكن بصورة متفاوتة جدًّا.
الحب الزائف وفخ الفراغ القديم
ليس كل البشر عاطفيين بالدرجة نفسها؛ فبعضهم يعيش بالمشاعر، وبعضهم يعيش بالعقل، وبعض آخر يرى أن الحب هو القيمة العليا في الحياة، في حين يرى آخرون أن النجاح أو المال أو الظهور هو القيمة الأسمى. وهذا ما يفسر أن بعض الناس يدخلون في العلاقات العاطفية ليس بدافع الحب الحقيقي، بل لأن العلاقة تمنحهم شعورًا مؤقتًا بالقيمة أو بالاكتمال. فمن يشعر أنه غير مرئي، يبحث عمن يراه، ومن لم يُقدر من قبل، يبحث عن علاقة تجعله موضع تقدير. لكن هذه ليست مشاعر نقية، بل محاولات لملء فراغ قديم.

التوازن النفسي والعاطفي وخزان المشاعر
تُشبه الدراسات النفسية الحديثة المشاعر بـ«خزان عاطفي» (Emotional Tank)، فكل منا له خزان داخلي يحتاج إلى أن يُملأ من مصادر متعددة: علاقتنا بالله، بعائلتنا، بأصدقائنا، وبأنفسنا. ولهذا فالمشاعر القوية أو العلاقات العاطفية العميقة نادرة؛ لأن أغلب الناس يملؤون خزانهم من مصادر أخرى، في حين من يشعر بالفراغ العاطفي يبحث عن علاقة واحدة تُشبعه بالكامل.
والحقيقة أن الإنسان لا يحتاج إلى عشرات العلاقات، بل إلى علاقة واحدة صحية فقط ليكون متزنًا نفسيًا. قد تكون هذه العلاقة مع الأم، أو الأب، أو الصديق، أو حتى مع الله، لكنها علاقة تمنحه الأمان العاطفي وتعيد إليه الإحساس بالحب غير المشروط.

أشارت دراسة بعنوان «Exploring the Association between Attachment Style, Psychological Well-Being, and Relationship Status in Young Adults and Adults» (2023) إلى أن الأفراد الذين كانوا في علاقات قريبة ومستقرة بلغوا عن مستويات أعلى من الرفاه والصحة النفسية مقارنةً بالأفراد غير المرتبطين.
وأظهرت دراسة أخرى بعنوان «Stable Marital Histories Predict Happiness and Health Across Educational Groups» نُشرت عام 2025 أن المسارات الزوجية المستقرة تتنبأ بنتائج أفضل في الصحة والسعادة مقارنة بأيام العزوبية أو العلاقات غير المستقرة. وانطلاقًا من هذه الدراسات يمكننا استنتاج أن العلاقة الواحدة المستقرة -وليست بالضرورة متعددة أو معقدة- قادرة على أن تكون عامل حماية نفسي.
قد يؤدي عدم النضج العاطفي إلى دخولنا في علاقات غير متزنة نفسيًا لتلبية احتياجاتنا العاطفية، لذلك من الضروري أن نعي احتياجاتنا وأن نعي بأنفسنا جيدًا حتى لا نتعرض للاستغلال من قبل أشخاص آخرين باسم المشاعر. نحن لا نحتاج إلى مئات العلاقات العاطفية الناجحة، بل إلى علاقة واحدة صحية كفيلة بأن تجعلنا مستقرين نفسيًا.
لماذا تنجذب بعض الفتيات إلى الرجال الأكبر سنًا؟
حين تفقد الفتاة والدها مبكرًا أو عاطفيًا، يتكون داخلها ما يُعرف بـ«الحرمان الأبوي» (Paternal Deprivation). فالأب في مرحلة الطفولة يمثل الأمان والحماية والقدوة، وحين يُنتزع هذا الدور، تظل الفتاة تبحث عنه لاشعوريًا في الرجال الذين تقابلهم لاحقًا، فتنجذب غالبًا إلى رجل أكبر منها في السن، ليس لأنها تحب نضجه فحسب، بل لأنه يُذكرها بالدور الذي افتقدته.
لكن هذا لا يعني أن العلاج هو الارتباط، بل إن الحل هو فهم هذا الجرح ومعالجته نفسيًا؛ لأن الزواج لا يعوض الأبوة المفقودة، بل قد يعيد تكرار الجرح نفسه في شكل جديد.
وبما أن العمر ليس له علاقة بالنضج، فقد نرى شخصًا صغيرًا في السن يستطيع أن يتحمل أعباء الحياة أكثر بكثير من رجل يكبره في العمر. لذلك فإن انجذاب الفتاة إلى الرجل الأكبر منها سنًا لأنه يذكرها بوالدها أمر غير صحي إطلاقًا، إذ يجب عليها أن تعالج هذا الأمر بدلًا من الدخول في علاقات عاطفية تستنزفها وتستنزف وقتها وصحتها وحياتها. هي لا تحتاج إلى أن تعالج هذا الجرح بالدخول في علاقة مع رجل يكبرها، بل تحتاج إلى اللجوء إلى العلاج النفسي لتتعافى منه. ثم إن الزواج يحتاج إلى توافق فكري واجتماعي وتوافق في السن، فالتقارب العمري بين الرجل والمرأة يجعل الحياة أكثر توازنًا واستقرارًا.
فهم المشاعر قبل الانغماس فيها
المشاعر مثل البحر، جميلة حين نعرف كيف نسبح فيها، لكنها قد تُغرقنا إن لم نتعلم حدودها. ولهذا من المهم أن نفهم مصدر احتياجاتنا العاطفية قبل أن نحاول إشباعها في الآخرين، فمن يدخل علاقة وهو ناقص عاطفيًا يسعى لأن «يُشفى» من طريق الحب، لكن العلاقات لا تُشفي الجروح القديمة، بل تُعيد فتحها. العلاج يبدأ من الداخل: من معرفة النفس، والوعي باحتياجاتنا، والتصالح مع الماضي.

حينها فقط نصبح قادرين على الحب الناضج — لا الحب الذي نبحث فيه عن «من ينقذنا»، بل عن «من ننمو معه». يجب ألا نهمل مشاعرنا ولا ننغمس فيها؛ فإهمال مشاعر الفقد والانغماس في الحياة العملية قد يجعلنا ندخل في علاقات استغلالية ومستنزفة. فمشاعرنا يمكن أن تجعلنا سعداء جدًّا؛ لأن الإنسان العاطفي يرى الجمال في كل شيء، لكنها أيضًا قد تجعله أكثر الناس بؤسًا حين يتعرض للاستغلال من أشخاص بلا قلب يرون الحياة مادة. معالجة جروحنا القديمة ليست ضعفًا، بل هي طريق للعيش بسلام وانتعاش نفسي، بدلًا من الدخول في علاقات مؤذية ومستنزفة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.