في ليلة 18 من ربيع الأول سنة 916 هجري، الموافق 25 من يوليو 1510 م، رسا الأسطول الإسباني على ميناء طرابلس، وفي صباح هذه الليلة نزل الجيش بالمدينة بعد أن ضرب قلاعها بمدافعه، وكان الأسطول الإسباني كبيرًا جدًّا، بلغ عدد سفنه 120 سفينة، انضمت إليها خمس سفن من مالطا، ورجاله يفوق عددهم 15 ألف مقاتل، يقودهم القبطان بيدرو نافارو.
الشيخ عبد الله بن شرف
هرب معظم سكان طرابلس منها خوفًا من الإسبان ووحشيتهم، ولم يبقَ فيها إلا الشيخ عبد الله بن شرف وأزواجه وأبناؤه وأصهاره، وقليل من الجند وبعض المدنيين وبعض العائلات اليهودية. استبسل الشيخ ومن معه من جنود ومدنيين في الدفاع عن طرابلس، وسقط مئات الشهداء، ولكن كان الإسبان يفوقونهم في كل شيء، وقيل إن عدد القتلى من الطرابلسيين بلغ 5 آلاف، وعدد الأسرى أكثر من 6 آلاف.
لجأ المدنيون إلى الجامع الكبير لعل الإسبان يحترمون دور العبادة فلا يقتلونهم، ولكن وحشية الإسبان أبت ذلك، فقتلوا منهم نحو ألفين بين رجال ونساء وأطفال، فلا يخلو موضع قدم في المدينة من جثة شهيد، وكانت جثث النساء مقطعة الأثداء ومبقورة البطون دليلًا على هذه الوحشية. ولكثرة القتلى، فقد ألقيت جثثهم في صهاريج الجوامع، وفي البحر، وأُحرق بعضها.
أما الشيخ عبد الله بن شرف، فقد قبض عليه في القلعة مع أولاده وزوجته وكل أسرته أسيرًا، ونقله الإسبان إلى ميسينا في صقلية -وقيل إلى باليرمو-، وبقي فيها عشر سنوات. وكان عدد الأسرى الذين وصلوا إلى هناك كبيرًا جدًّا، وقد بيع هؤلاء الأسرى الطرابلسيون واليهود في المزاد بأسعار بخسة. أما الشيخ عبد الله، فقد بقي مسجونًا مع أسرته، ولم يُبع مع من بيع من الناس.
لم يهنأ الإسبان بطرابلس، ولم يتمكنوا من تجاوز الأسوار، فقد كانت حراب الطرابلسيين وسيوفهم تتخطفهم إن هم فعلوا ذلك، وأصبحت المدينة خاوية، وأصابها الكساد الاقتصادي بعد أن هجرها الناس، وعبثًا حاول نائب الملك الإسباني في طرابلس إعادة المواطنين إلى المدينة، وإقناعهم بالتوقف عن المقاومة.
فقررت إسبانيا إعادة الشيخ عبد الله إلى طرابلس بعد عشر سنوات من المنفى، لعله يستطيع -بما يكنه الناس له من حب- إقناعهم بما يريده الإسبان. ويقال إن سكان طرابلس النازحين عنها كانوا يضعون عودة الشيخ شرطًا لعودتهم إلى المدينة. وفعلًا أعيد الشيخ ورجع إلى طرابلس، وعاد لرجوعه أكثر من 500 عائلة إلى طرابلس. فرح الإسبان بذلك، وأصبحوا يأملون عن طريق هذا الشيخ المحبوب في المدينة عودة الأمور إلى مجراها العادي بمرور الزمن، ولكن حصل ما لم يحسب له الإسبان حسابًا.
لم يكن الشيخ عبد الله التقي المؤمن ليرضى بمهادنة الإسبان، والتنعم بالخير الذي سرقوه من الطرابلسيين، فقد وجد في عودته إلى طرابلس ومسايرة الإسبان قليلًا من الوقت فرصة لتمكين نفسه من الدفاع عن دينه ووطنه، فقد تمكن رحمه الله من الفرار من الإسبان، والالتحاق بالمجاهدين الطرابلسيين خارج أسوار المدينة في تاجورا، والانخراط معهم للدفاع عن المدينة من جديد، وحينئذ انقطعت أخباره رحمه الله وجزاه عن أهل طرابلس خيرًا.
التنازل لفرسان مالطا
قرر الإسبان، ربما بسبب عدم تمكنهم من السيطرة على طرابلس، التنازل عنها لمصلحة فرسان القديس يوحنا (فرسان مالطا)، وكان ذلك عام 1530 م. وهي منظمة تحمل حقدًا دفينًا تجاه المسلمين، وكانت من أكثر الداعمين للحروب الصليبية، فزاد حال أهل طرابلس معهم سوءًا، فقد حاربوا كل مظاهر الإسلام بالمدينة، وتمنوا لو جعلوها مسيحية نصرانية، معتقدين أنهم يقدرون، حتى إنهم حوَّلوا أحد المساجد الكبرى بطرابلس إلى كنيسة، أسموها كنيسة ليونارد، وبعد فتح طرابلس أعادها العثمانيون إلى سيرتها الأولى.
قرر سكان طرابلس وضواحيها -كما يذكر بعض المؤرخين- طلب المساعدة من الدولة الإسلامية الأقوى في ذلك الوقت، لتخلصهم من الاحتلال المسيحي، وهي الدولة العثمانية، فأرسلوا -بناءً على نصيحة القبطان الشهير باربروسا- وفدًا إلى السلطان العثماني يطلبون منه إنقاذهم وبلادهم من الاحتلال المسيحي.
توجد رواية تذكر أن الطرابلسيين كلموا درغوت باشا الذي تصادف مروره في البحر المتوسط في هذا الوقت، لكنه تحجج بأنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا دون موافقة السلطان، لكنهم ردوا قائلين له إنهم سيبررون للسلطان العثماني ما قام به فيما إن هو وافق على طلبهم، ولكنه لم يفعل.
على هذا، يمكن القول إن قدوم العثمانيين ثَمّ الانكشاريين إلى طرابلس كان بناءً على طلب أهالي طرابلس.
المدد العثماني
وافق السلطان العثماني على طلب الطرابلسيين، وأرسل في البداية القائد خير الدين كرمان الذي نزل في تاجورا عام 1536 م وبدأ محاولات التحرير، ثم أرسل بعده القائد مراد آغا الذي أكمل محاولات كرمان، ولكن قوته لم تكن تكفي للمهمة، فطلب المساعدة من العاصمة العثمانية.
في 18 يوليو 1551 م وصلت الإعانة العثمانية إلى مراد، جاء الأسطول العثماني المكون من مئة وخمسين سفينة بقيادة سنان باشا ومساعده درغوت، والمئات من فرسان الانكشارية الذين تعتمد الدولة العثمانية على سيوفهم في حروبها المتعددة.
رسا الأسطول العثماني أمام طرابلس، ونزل سنان باشا على تاجوراء حيث يقيم مراد آغا، وبدأ في التنسيق معه لتحرير طرابلس، وتم لهم ذلك بعد معارك طاحنة في أغسطس سنة 1551 م، اضطر بعدها فرسان القديس يوحنا للاستسلام ورفع الرايات البيضاء، مقابل سلامتهم والسماح لهم بمغادرة طرابلس بسلام، وهرب الليبيون المتعاونون معهم إلى مالطا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.