كيف نبتكر أفكارًا متميزة وسط عالم مملوء بالزيف؟

يقول رامسي بي في كتابه (Fabricated Man): «لأن من سيأتون بعدنا قد لا يكونون مشابهين لنا، أو لأن الذين هم مشابهون لنا قد لا يأتون بعدنا، ولأنه بعد مدة من الزمن قد لا يأتي أحد بعدنا؛ لهذا كله لا بد للبشرية أن تضمن من الآن أن يصبح من يأتون بعدنا أبعد جدًّا عن أن يكونوا مشابهين لنا».

من عدة سنوات استفزتني كلمات إعلان لأحد البنوك الوطنية المشهورة بإعلاناتها التحفيزية التي تطلقها في شهر رمضان من كل عام، كان الإعلان معتمدًا على جملتي: (أنت استثنائي)، و(النسخة الأصلية)، وتساءلت حينها: كيف تجتمع تلك الجملتان للتعبير عن الاختلاف والابتكار؟ فما أعرفه عن الابتكار هو أنه كل فكرة جديدة مبدعة تخالف الفكرة الأصلية أو التقليد السائد، أما أن يكون الاختلاف والاستثناء هو ذاته مطابقًا للنسخة الأصلية، فهذا يعني أن الأمة تمر بمرحلة تهدد كل ابتكار جديد، ذاك أن هذا المعنى يطوي في جعبته كمية الأفكار المزوّرة التي تملأ حياتنا، وللأسف هذا هو عين الواقع حتى أصبح الاختلاف هو عملية البحث عن أصل كل شيء، بعدما شوّه كل شيء وبات مزورًا، وفي هذه الأجواء المخيفة تعد النسخة الأصلية بالطبع اختلافًا، لكنه محض اختلاف عن النسخ المشوهة، وليس بالاختلاف الابتكاري الذي يلهث عالم اليوم وراءه ليقدم جديدًا للإنسانية.

أين ذهبت الأفكار المبتكرة؟

ولقد أثار هذا الخطأ في اللفظ والمعنى حفيظتي، وتساءلت كثيرًا: كيف لم ينتبه إليه أحد؟ كيف تقبل مؤسسة عريقة كهذا البنك أن يعبر عنه بهذا النهج السخيف المشوه لكل إنجازاته في الأعوام السابقة؟ وظلت الأسئلة تتقافز في رأسي، لا أتخيل كيف وهن ذلك التعبير، فبرزت هذه الثغرة من رأس صاحب الفكرة إلى مسؤولي البنك إلى شركة الإعلانات، ومنه إلى شاشة التلفاز ليراه كل العالم العربي، وربما خارجه، تساءلت: كيف تماهت أفكارنا المبتكرة مع واقعنا المزور، وشعرت أننا في دائرة انحطاط لن نخرج منها.

ولا أظنني مبالغًا في شعوري ذاك، فالجهاز الإعلامي لأي دولة في العالم من أقوى المؤثرات في الشعوب إن لم يكن أخطرها، وكل ما يصدر عنه من بيانات وإعلانات وبرامج ومسلسلات وأفلام، إلخ.. لا بد أن يعبر تعبيرًا واضحًا وشديد الصدق عن حراك الأفكار في أدمغة شعبها، حتى الأفكار المزيفة للحقيقة أو أبواق الأنظمة هي في النهاية من نسيج تلك الدول وناسها، وتعبر عن أحد أنماط التفكير السائدة بها.

أفكار الشعوب

ولأن للأفكار قوة لا يستهان بها، فإذا أردت أن تعرف شعبًا ابحث عن أفكاره وثقافته، فالأمم المتقدمة ما كانت لتصل إلى تلك المكانة لولا أفكارها وحركة التغيير التي فيها، وعلى النقيض ما كانت دول العالم الثالث لتصنف هذا التصنيف لولا شح أفكارها ودنوّها في أحيان كثيرة، الأفكار صنعت دولًا وأنظمة، وحطت من بعضها، وأبادت أخرى عن صفحة الإنسانية تمامًا.

لكل هذا كان شديد انزعاجي عندما سمعت هذا الإعلان الذي يفترض أنه رسالة تحفيزية لتطوير الحراك الفكري والتنموي للدولة عبر أحد بنوكها الوطنية العريقة، لقد ميز الله الإنسان بقدرات غير محدودة على الإبداع والابتكار والخيال، ووهبه كفاءة عالية في اكتساب الخبرات والتحكم بها وتطويعها للوصول إلى التطور التكنولوجي، وكل هذا بفضل الأفكار وقوتها.

وهذا ما دعاني أن أفكر في محاولة جادة لمعرفة سبل تخليق الأفكار المبتكرة التي تتميز كليًا عن الأفكار السائدة، وبالطبع لن تكون النسخة الأصلية، بل ستكون النسخة المبتكرة.

تخليق الأفكار المبتكرة

إنها ليست بالمعجزة أو السحر أن تبتكر أفكارًا عظيمة لا تضيعها ذاكرة التاريخ، إضافة إلى أنه ليس جزءًا احتكاريًا من التركيبة الجينية للإنسان، إنما هي محض أيد تتلمس دومًا المواضع الصحيحة للخلل والعطب والإهمال، وربما النسيان، وتلتقط ما يهيم في الخلد دون هدف لتستخدمها في مواطن جديدة، وهكذا الأفكار يصيبها الخلل والعطب والإهمال، وتهيم دون هدف إن لم تلتقطها الأذهان، وتنقب بها عن المتميز والمبتكر.

ومن كان يظن أن الفكرة الرائعة لا تصدر إلا من رجل شديد الفطنة والذكاء، أو ذي موهبة خاصة فهو واقع في خطأ شديد في حق نفسه ومجتمعه، ولتتأكد بنفسك من صحة هذا القول تابع معي صفحات هذا الكتاب الذي وضع خصيصًا لتصحيح كثير من المفاهيم الخاطئة والسائدة بين جموع الناس، وهذا ما يجعلنا في حاجة إلى إعادة فهم معنى الإبداع والابتكار ومقاصدهما الجوهرية واستيعابهما.

وفي هذا السبيل وبالاقتراب من كثب من مفهوم الابتكار نجد أنه موهبة ذهنية خاصة ترتقي بعملية الإبداع ذاتها، وتطبع صاحبها بصفة العبقرية والتميز، فحين نصف شخصًا ما بأنه مبتكر؛ نعني غالبًا امتلاكه موهبة التفكير الابتكاري، والقدرة على إبداع شيء فريد وغير مسبوق، بيد أن هذا المعنى لا يرمي إلى أن تلك الموهبة الخاصة منحت لأناس دون أناس، فهي موهبة خاصة في توصيفها، لكنها عامة في توزيعها المنصف بين الناس، ولا تتعلق بإمكانات جسدية أو ذهنية، وإنما هي شديدة الارتباط برغبة الفرد وقدرته على التخطيط أو التقاط أفكاره الملهمة، وإلا لما كان لذوي الههم (أصحاب الإعاقات الذهنية) أن يحققوا ابتكارات ما كنا لنتخيل أنها تصدر من ألبابهم.

عملية الابتكار

وبهذا يمكن القول إن الابتكار يقف خلف الإبداعات العلمية والفنية والأدبية جميعها التي تتميز بالتفرد والأصالة والإضافة الحقيقية، فالأديب العبقري المبتكر لا يكتفي بتسجيل الواقع كما هو، إنما يعمد بالأحرى إلى التركيب والتوفيق بين أشتات المعاني ليبتدع من ذلك روائع خالدة تخلب الألباب.

ما تعريف الابتكار وما أهميته؟

ويمكن تعريف الابتكار أيضًا بأنه تحويل المعرفة القديمة إلى خدمات جديدة ومختلفة من شأنها النهوض بمستوى الفرد والمجتمع إلى مستوى متقدم ورفيع، أو هو عملية ولادة عقلية عن قصد أو غير قصد تنشأ من تزاوج عدة معارف لتأتي لنا بخدمة جديدة.

ويعد الابتكار هو الخلاص الوحيد للتحرر من الاعتمادية وركون دول العالم الفقيرة إلى بعض الدول المتقدمة في متطلباتها كلها، ومن شأن الابتكار أن تتحول تلك العلاقات بينهما إلى التعاونية بين الطرفين لتحقيق مصالح الأطراف جميعها.

أهمية الابتكار

ولقد فطن الغرب إلى أهمية الابتكار مذ أن أطلقت روسيا أول قمر صناعي في التاريخ البشري، فأصدرت أمريكا على الفور تقريرًا بعنوان (أمة في خطر) إلى أن صرنا نجد استراتيجية لتعليم الابتكار وتطبيقه في مناحي الحياة كافة.

واليوم قصص الابتكار وحدها هي الضمان القاطع لاستمرار الحراك التنافسي بين الأفراد والمؤسسات والمجتمعات والدول، والأمثلة على هذا يصعب إحصاؤها، فعلى سبيل المثال يذكر أن إحدى شركات العرائس في اليابان قد عانت في إحدى السنوات عدم تغطية المبيعات التي تنتجها حجم الابتكارات الموجودة، ومما هو معروف أن الشركات اليابانية مبتكرة جدًّا في مجال العرائس والإلكترونيات، وتحظى بمهارة منقطعة النظير في إنتاج مثل هذه الأشياء، وكان أمامهم عدة خيارات إما أن يغلقوا أقسامًا كاملةً من الشركة، ويفصلون من يعملون بها، أو أن يفكروا في فكرة مختلفة تنتشلهم من هذا المأزق المحرج.

كانت تلك الشركة تمتلك قطعة أرض تتعدى مساحتها مليون فدان، ففكروا في استخدامها في الزراعة، وكثرت الأقاويل والإشاعات عن مدى رجاحة عقول مديريها، قالوا لهم: هل أنتم مجانين؟ تعملون في الزراعة! مجال لا خبرة لكم فيه، لكن الشركة تجاهلت تمامًا ردود الأفعال، وبدأت بزراعة المليون فدان.

وفي عام بدأ المحصول يظهر، فصنعت الشركة ابتكارًا جديدًا لعرائس تبيع منتج الأرض من الخضراوات والفاكهة، ومعروف أن الأطفال تثيرهم أقل الأشياء فيتحفزون سريعًا، فهرعوا يشترون العرائس وهي تتكلم وتغني، ويشترون معها الخضراوات، ويذكر في هذا العام أن الشركة قد حققت مبيعات لا نظير لها في السنوات الماضية، بل سحبت العرائس المخزونة كلها، وعُوّضت نفقاتها بعشرات الأضعاف، وهذا هو عين الابتكار وصميم الإبداع.

والمتتبع لمسيرة الابتكار في القرن الماضي يجد أفكارًا رائعةً أسست عليها مؤسسات وشركات عظمى؛ مثل فكرة الترنزستور التي كانت سببًا في ظهور شركة (Sony)، وخلطة الدجاج السحرية التي كانت سببًا في نجاح سلسلة مطاعم كنتاكي في أنحاء العالم جميعها، وارتباط مادة المياه الغازية بنجاح شركة كوكا كولا، وأول هاتف محمول الذي صعد باسم قرية نوكيا لتصبح على الخريطة العالمية، ومحطات التلفزيون المشفرة التي ابتكرها (تيد تيرنر) التي تحولت فيما بعد إلى إمبراطورية لا نظير لها، إلخ.. من الأفكار الملهمة التي بنيت عليها كيانات كبيرة، فحققت التغيير والرواج السريع، والشهرة التي تخطت حدود منشئها الأصلي.

إضافة إلى أنه كان لبعض الابتكارات الفضل في تغيير العالم وتمكين الإنسان بإتاحة المعرفة عند أطراف أصابعه، فلا يمكن أن ننسى دور شركة (مايكروسوفت) التي أسسها (بيل جيتس) في وضع أسس صناعة البرمجيات، ونظيرتها شركة (آبل) التي أسسها (ستيف جوبز) في بدء صناعة الحاسبات الشخصية، وقد مهدت الشركتان الطريق لولادة شركات تكنولوجيا معلومات أخرى مثل (فيس بوك)، و(جوجل)، و(أمازون)، إلخ.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.